العدد 4308
الجمعة 31 يوليو 2020
banner
إنها معايير العصر
الجمعة 31 يوليو 2020

في أزمنة المظاهر تضيع قيم كثيرة ولا تكون للمضمون أية قيمة، طالما أنك غني الكل يسعى إليك وتدبج في مديحك الجمل والقصائد، أنت خاوي العقل ولا تستطيع أن تعبر عن شيء أو تقنع دجاجة، لا بأس فالكل سيستمع إليك ويهز لك رأسه ويتخذ كلامك مهما كانت تفاهته حكماً بليغة، أما الآخر فليس حرياً بأن يستمع إليه حتى إن نطق بالعلم والحكمة.

في رواية تسمى “مدام شلاطة” للكاتب المصري وحيد غازي، جاءت عبارة: “نحن في زمن، السيقان تدر أكثر من العقول، سيقان لاعبي الكرة وسيقان الراقصات”، في زمن كهذا قلما يكون النجاح حليف الإنسان الذي لا يلتزم ببهرجة ومظاهر ومساحيق هذا الزمن العجيب، فعندما أعلن عن فوز “سوزان بويل” بالمركز الأول في مسابقة الموهوبين للغناء، اعتبر هذا الخبر كبيراً على اعتبار أنه إذا عض كلب رجلاً فهذا ليس خبراً، لكن إذا عض رجلٌ كلباً فهذا هو الخبر.

لم يتوقع أحدٌ أن تفوز هذه السيدة بمسابقة كهذه، لأن شكلها الخارجي لا صلة له بقوانين هذا العصر، حيث الغناء وخصوصا في عالمنا العربي لم تعد له علاقة بأي مضمون، فلا كلمات، ولا لحن، ولا صوت، لكن الغناء أصبح مؤهلات تهتز في جميع الاتجاهات – يمنة ويسرة، وإلى أعلى وأسفل- وسيقان تتشابك، لا يكاد الإنسان يعرف سيقان البنات من سيقان الشباب.

إذا كان الإبداع هكذا، فلا مجال أبداً لتقدم أصحاب المواهب الحقيقية، خصوصا إذا كان شكلهم الخارجي لا يتفق مع معايير العصر الرديء، قديماً أيضاً كان الشكل يخدع والإنسان يخطئ في تقديره البشر وما يحملونه من علم وحكمة، لكن كان صاحب الموهبة الحقيقية يستطيع أن يعبر عن نفسه، فلم يكن العالم بهذا الضجيج والنفاق.

يُحكى أن مجموعة من الشعراء الكبار كانوا في طريقهم لقصر الخليفة ليمدحوه، وينالوا عطاياه كعادة الشعراء المدّاحين، فتبعهم رجل رث الثياب، ولا يبدو على هيئته أنه يحمل علماً أو شعراً أو حكمة، وتبعهم هذا الفقير بجرة كان يحملها إلى مجلس الخليفة، وبعد أن تبارى هؤلاء الشعراء أصحاب الأسماء الكبيرة في مدح الخليفة، وأخذوا العطايا، استدار الخليفة إلى هذا الفقير، معتقداً أنه جاء يطلب إحساناً وسأله عن مسألته، فقال الرجل “لما رأيتُ القوم أقبل جمعهم، إلى بحرك الطامي أتيتُ بجرتي”.

فنال هذا البيت رضا الخليفة أكثر من كل القصائد التي سمعها، فملأ له الجرة بالذهب مكافأةً له، وانصرف هذا الفقير، وعندما غادر القصر قابله بعض الفقراء من أمثاله، فاقتسم معهم الذهب الذي حصل عليه، فاعتقد الحراس أنه مجنون فقادوه إلى الخليفة مرة أخرى، ولما سأله الخليفة عما فعله قال الرجل “علينا يجود الخيرون بمالهم، ونحن بمال الخيرين نجود”، فملأ له الخليفة جرته بالذهب مرة أخرى.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .