+A
A-

قراءة في كتاب " السردية الحرجة العقلانية أم الشعبوية"

يثير كتاب البريفسور عبدالله الغذامي "السردية الحرجة العقلانية أم الشعبوية" الصادر مطلع السنة الحالية عن المركز الثقافي العربي العديد من الأسئلة الجوهرية و يكشف عن العديد من النتائج و الآراء بالغة الأهمية.  ففي الفصل الأول يشير الغذامي إلى أن القواميس الغربية تخلط ما بين مصطلحات   و لم تتمكن من تعريفها بشكل دقيق و هذا الخلط  Mind /Reason/Reasoning 

تبعتها فيها القواميس العربية مما أدى إلى الخلط بين مفاهيم العقل و العقلانية و الاستدلال العقلي و أن الذكاء الصناعي سيتكامل مع الذكاء البشري و لن يكون بديلا عنه و سيشاركه في العجز عن تقديم جواب للأسئلة الوجودية الكبرى. 

و في الفصل الثاني يذكر المؤلف بأن المدينة المعاصرة ليس فيها رأيا عاما واحدا بل آراء عامة و كل رأي له سرديته الخاصة المختلفة عن الآراء العامة الأخرى و هذه محصلة هويات ثقافية و مهنية و وطنية و اجتماعية متعددة لا تخضغ للنخبوية الفكرية كما كانت السرديات في الأزمنة الماضية مع وجود هويات مهيمنة تمارس ما سماه باللحن الثقافي أو تتبع الثغرات و التظاهر بالعدل و المساواة و ممارسة الطبقية الخفية مع الهويات المهمشة من الأقليات كالسود و النساء و المهاجرين الجدد و تلك الهويات المسحوقة كالهنود الحمر في المجتمع الأمريكي مثلا. 

و في الفصل الثالث يرى الغذامي بأن الخوف أول ما تعلمه الانسان و أنه كان الباعث لأبرز اكتشافاته و أن هذه الوضعية لم تتغير حتى في عالم اليوم فنشرات الأخبار تقدم وقودا لخوف الناس و هلعهم مما يوحي باحساس كاذب بانعدام الأمان مقارنة بالماضي و يضيف بأن الرأسمالية ثقافة تتكسب بتخويف الناس و ترويعهم. 

و في الفصل الرابع يذكر الدكتور عبدالله الغذامي بأن العالم حاليا يشهد انكسارا للسرديات الكبرى التي سادت العالم كالشيوعية و العولمة و تصدرا للشعبوية بنوعيها اليميني الذي يناهض اللاجئين و المهاجرين و يرى بأفضلية العرق الأبيض و اليساري الذي يناهض الأغنياء و الشركات الكبرى و يشترك هذين الفريقين بوصف أنصارهما بالشعب الحقيقي و أن الشعبوية اليمنية تنسب الأوضاع الاقتصادية و الأمنية و الاجتماعية المتردية للأجانب و المهاجرين و تدعم الجماعية على حساب الفردانية عكس الرأسمالية  و أن الشعبوية لم تخترع العنصرية بل إنها وجدت تراثا فلسفيا عريقا يتمثل في أفكار فلاسفة التنوير و كذلك رواد الفلسفة اليونانية سقراط و أفلاطون و أرسطو خاصة العدالة للأقوى و الحرية للأقوى و البوتقة الصاهرة.

و في الفصل الخامس يأخذنا الغذامي إلى منطقة بكر و هي التأثيرات السلبية للكتاب في الثقافة العربية و منها أنه تجاهل المرأة فهي مجرد مستهلك لا تقول و لا تفعل بل تكون مادة عابرة للحديث و كرس حضور مراكز و أهمل الأطراف و وسمهم بأنهم أعراب أو قرويين لا ذكر لهم و لا اهتمام بتاريخهم و ثقافتهم و يذكرنا بأن منصات التواصل الاجتماعي خاصة تويتر انتفضت و صفعت النخبة و بات الجميع قادرا على التأثر و التأثير بعكس زمن الكتاب و الجريدة و الاذاعة و التلفزيون. 

و لكن في المقابل هنالك العديد من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها في هذا الكتاب بداية من العنوان فهنالك افتراض معادلة صفرية إما أن تسود العقلانية الجديدة أو تطغى الشعبوية دون أن تحضر السردتيان معا في المشهد العام و كذلك استخدام المؤلف لعبارة " الذكاء الاصطناعي" عوضا عن " الذكاء الصناعي" و هو خطأ لغوي واضح و الدكتور عبدالله مشهور له ببلاغته و فصاحته بل و براعته في الترجمة و توليد المصطلحات الجديدة و تعريبها.

 ثم وقع المؤلف في فخ مغالطة في التصنيف فهو في المقدمة يضع العقلانية الجديدة في كفة معتمدة على الذكاء البشري و الصناعي معا في مواجهة الشعبوية و في هذا يلمح الدكتور أن الشعبوية تعتمد فقط على الخطاب العاطفي فقط و هي قراءة انتقائية من الغذامي فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحد أمثلة بروز الشعبوية استطاع الوصول للبيت الأبيض مستخدما الذكاء الصناعي متمثلا في منصات التواصل الاجتماعي خاصة تويتر و بالتالي فإن الذكاء الصناعي ذخيرة ثقافية تستخدمها الشعبوية كما تستخدمها العقلانية الجديدة. 

و في الفصل الأول" العقلانية الجديدة و الذكاء الاصطناعي من كانط إلى الكمبيوتر" لي تحفظ بداية على استخدام مفردة الكمبيوتر و كان الأولى استخدام عبارة معربة كالحاسوب ثم إن الذكاء الصناعي حاليا يمارس عبر الأجهزة الجوال خاصة الايفون و لم يقدم الغذامي ما يدل على أن العقلانية الجديدة و لا الذكاء الصناعي مرتبطان بكانط و لم يقتصر الأمر على العنوان بل تعداه لمحتوى الفصل فمثلا يقع الدكتور عبدالله في خلل فلسفي في فهم العاطفة فهو يشنع على تعريف كامبريدج للعقل أنه يتصور أن العقل مفكر و عاطفي و الدكتور لم ينقض التعريف بسبب علمي أو أكاديمي بل احتج بأن الثقافات الشرقية و الغربية لا تقر ذلك و هنا أذكر الدكتور بنظرية جاردنر للذكاءات المتعددة و من بين أنواعها الذكاء العاطفي و هو ما يعني أن العاطفة قد تكون أحيانا معقلنة و المفارقة أن الدكتور استشهد بالنظرية في ذات الفصل من الكتاب. 

و في الفصل الثاني " الهوية و المدينة" يقع الدكتور عبدالله في فخ استحضار آراء قديمة له كتبها في كتبه و خاصة " النقد الثقافي " و محاولة استحضارها خارج الاطار الزمني فهو مثلا يشير إلى أن الشعر أحد أدوات التسمم اللغوي و معها المسرح و لكن الدكتور لم يقدم مثالا واحدا على قصيدة أو مسرحية معاصرة قامت بتنميط المرأة أو بث العنصريات في زمن العقلانية الجديدة فتلك الأدوات فقدت جزءا كبيرا من تأثيرها في عالم اليوم و هذا لا ينفي أنها تضمر أنساقا ثقافية في الماضي و كذلك يقدم الدكتور مفهوما ملتبسا للحياد حين يصف الرأي في منصات التواصل الاجتماعي بالحياد و أعتقد أن الدكتور يشير إلى مفهوم الموضوعية و شتان ما بين المصطلحين. 

و في الفصل الرابع يتجاهل الغذامي أن الشعبوية لها اعلامها المؤيد لها فترامب مثلا يلقى دعما من قناة فوكس و كذلك من مذيعين شعبويين و يقع الدكتور عبدالله في فخ الخلط بين الشعبوية و التطرف أو التشدد فليس كل يساري متطرف أو يميني متطرف هو شعبوي و كذلك ليس كل شعبوي بالضرورة يميني أو يساري أو حتى اديلوجي بل ليس كل عنصري شعبوي و لا كل شعبوي عنصري فالدكتور طرح مثالا في هولندا دون أن يقدم ما يثبت بأن خطاب اليمين المتطرف يشابه طرح ترامب الشعبوي و يقع الدكتور في خطأ تاريخي باشارته إلى أن حركة الشاي أو كما ترجمها حزب الشاي كانت في زمن بوش الابن و الصواب أنها كانت في عهد باراك أوباما و ان كنت أرى بأنها تيار لأن كافة المنتسبين لها هم منتسبون للحزب الجمهوري و لا يمكن الانتساب لحزبين سياسيين معا و يزيد الغذامي في الربط غير الموفق بين الشعوبية الغربية و الشعوبية العربية فلم يوضح الدكتور أوجه الشبه بين الشعوبية العربية و نظيرتها في أمريكا و أوروبا خاصة في الخطاب العنصري و معاداة الأقليات و المهاجرين و اللاجئين و لا أمثلة لتلك الشعوبية العربية المعاصرة التي تنتج خطابا سياسيا و لكنه عوضا عن ذلك قام بالحديث عن تسييس الدين في العالم العربي و ناقشه بشكل موفق حتى و ان كان ليس له علاقة بمبحث الشعبوية. 

و أما الفصل الخامس " علامات الزمن" فلم يوفق المؤلف في ربطه إلى مباحث كتابه العقلانية الجديدة و الشعبوية و كان الأولى أن يكون هذا الفصل اما لاستشراف سردية جديدة تتجاوز علل الشعبوية و العقلانية الجديدة أو تنظيرا لشعبوية جديدة تتجاوز علل الشعبوية الحالية أو تحليلا لمستقبل الشعبوية و العقلانية الجديدة و لكنه عوضا عن ذلك قام بالحديث عن الخطابة و الشعر و الصحافة دون أن يوجد رابطا منطقيا مع الفصول الأربعة الأولى اضافة إلى ذلك لم يحاول الغذامي حتى أن يربط محور شبكات التواصل الاجتماعي بموضوع الكتاب و هي السردية الحرجة سواء للشعبويين أو العقلانيين الجدد و هما طرفا صراع في تلك المنصات ثم يقع الدكتور في مطب اصدار حكم عام بناء على تجربة شخصية فهو يقطع بأن الكتاب الالكتروني لن يلغي الكتاب الورقي بسبب أن كتبه تلقى رواجا رغم وضعه نسخا الكترونية مجانية و مبيعات الكتب في معرض الرياض و بغض النظر عن وجهة نظري في الكتاب الورقي و الالكتروني فإن اصدار حكم كهذا أو عكسه يتطلب حججا أقوى و احصائيات دقيقة لمبيعات الكتب الورقية في العالم من خلال معارض الكتاب و المكتبات التقليدية و كذلك المتاجر الالكترونية ثم ختم الدكتور برأي بلا سند علمي و هو أن مراكز صناعة الأفكار أتت بديلا للجريدة رغم اختلاف أدوار المؤسستين و نوعية طرحهما و القائمين عليهما فالجريدة تقدم خبرا و رأيا و تحقيقا و تثقف المجتمع و تزوده بالمعلومات أما مراكز صناعة الأفكار فترصد الرأي العام و تمارس دورا بحثيا يكمل الدور الفكري للجامعات.