العدد 4181
الخميس 26 مارس 2020
banner
رسالة الكورونا الإنسانية (2)
الخميس 26 مارس 2020

وإذا نظرنا إلى ما وصلت إليه البشرية اليوم من إعمار وعلم وتكنولوجيا، نجد أنه لولا انطلاق قائدي القيم العليا بما يملكون من رؤى حقيقية لذواتهم، لما كان ذلك التطور والإبداع الإنساني، وقد كانت هناك بداية لكل مجال منذ خلق البشرية، فلولا وجود قيمة العلم منذ العصر الحجري لما وجدت النار، ولولا وجود قيمة الطهي منذ ذلك العصر لما شويت لحوم الحيوانات، كل تلك القيم كانت بصورة بدائية وتطورت بشكل مبهر إلى ما وصلت عليه الآن من إبداع لا متناهي، حيث إنها بدأت من منطلق بقاء الجسد إلى ما نحن عليه الآن من إبداع وتألق، ومع مستجدات الحياة المعاصرة وما آل إليه أغلب البشر من سعي وراء الكسب والظهور، ومن مفاهيم مغلوطة عن النجاح والثروة والعلاقات والسعادة، أصبحوا يعيشون في أوهام بعيدة عن الحقيقة المعنية بخلقهم، لماذا هي أوهام؟ لأن ما يعيشونه هو مجرد فقاعة الغاية منها تعويض ما يعانونه من نقص ذاتي، يدفعهم إلى تقليد المبدعين القلة من قائدي القيم العليا الحقيقيين.


هؤلاء يعيشون يوميا في برمجة العقل اللاواعي الذي نشأ من تخزين أفكار يؤمنون بها وكأنها معتقد لا ينفكون عنه، تلك الأفكار اختزنت من التنشئة والتعليم وثقافة المجتمع، هذا بالإضافة إلى إسقاطات وأحكام من تجاربهم وخبراتهم الشخصية، تلك الأفكار المختزنة تحمل في العقل وكأنها برنامج يعاد تشغيله على شكل سلوكيات وعادات يومية، والأخطر من ذلك يشغل ذلك البرنامج كرد فعل انعكاسي تلقائي لأحداث وأشخاص مثيرة للانفعالات، يجعلهم لا ينفكون عن العيش في الماضي، فكأن الزمن متوقف عند ذلك المخزون وعداد أعمارهم الزمنية مستمر بالعد التصاعدي! هنا يكمن الخطر الحقيقي الذي لا يدركون عنه سبيلا، ذلك لأنهم يعيشون في سجن العقل الذي يعيق انطلاقتهم الإنسانية نحو المستقبل، يعيشون تحت وطأة هرمونات التوتر كالنورإبينفرين، حيث تجد هؤلاء مشتتين يعانون من نزول المناعة وعلى الأقل مرض جسدي أو نفسي، هؤلاء يعيشون في إدمان يجعلهم في حالة متعة مؤقتة، ناهيك عن المشاعر المتطرفة الناتجة عن الخوف والغضب والحسرة والشعور بالذنب وعيش دور الضحية، وما إلى ذلك من مشاعر مؤلمة، كيف يعادل جسد هؤلاء فيروس الكورونا المؤثر سلبا على توازن الجسد بإيجابية المناعة المتدنية؟.


من هنا يمكن أن نفهم رسالة الكورونا، التي هي رسالة للإنسانية، لأن رسالة الإنسانية هي رسالة الحب الواعي الذي لا يتفعل إلا بإدراك رسائلنا الذاتية أولا، أي قيمنا العليا الذاتية في أي مجال كان، لأن الإنسانية تحتاج إلى العطاء والإبداع في كل مجالات الحياة، من فن وأدب وموسيقى وعلم وتكنولوجيا وعلوم إنسانية وأزياء وطهي وزراعة وهندسة وغيرها، فالحب الواعي ينشأ فقط من تفعيل القيمة العليا لأنه مبني على شعور متوازن حقيقي معني بخلق الإنسان، لأن فيه استمتاع في مصاعب وتحديات القيمة وامتلاء وسعادة في الإنجاز، والحب الواعي يحقق التسامح والسلام الذي يتحدث عنه العالم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية