العدد 4116
الثلاثاء 21 يناير 2020
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
تساؤلات حول مستقبل الرأسمالية
الثلاثاء 21 يناير 2020

لقد استعرنا عنوان مقال من عنوان العدد الأخير من المجلة الأميركية المعروفة بالفورين أفيرز (الشؤون الخارجية) (1)، وهي واحدة من سلسلة من المقالات والدراسات خرجت بها مؤخرًا مراكز الأبحاث والتفكير وباحثون في المجتمع الأوربي. وهي دراسات قد تناولت العديد من إخفاقات الأشكال المنظمة للعلاقة على مستوى الدول والأقاليم والعالم. فبعضها قد تحدث عن إخفاقات التحالفات الإقليمية في أوربا ولربما أبرزها إخفاق السوق الأوربية المشتركة، وبات البعض يتحدث عن إخفاقات الاتحاد الأوربي والعملة الأوربية الموحدة. بل إن بعضهم يرى أن دخول الاتحاد في العملة الأوربية الموحدة: اليورو قد أعطى أولًا المانيا وفرنسا قوة كبيرة في الاتحاد الأوربي وصلت كما يقال إلى القدرة على فرض رؤاهم على الأطراف الأخرى الأقل قوة أو الأضعف (2). وثانيًا أنها قد عاظمت من ضعف الاقتصاديات الأصغر والأضعف في أوربا أو تلك دخلت الاتحاد متأخرة كاليونان والبرتغال وبدرجة أقل في اسبانيا والنمسا، ولا أعتقد أن بروز النزعات الانفصالية في عدد من الدول الأوربية هي ظاهرة بعيدة عن كل هذه التحولات.. ويشير بعض الباحثين الأوربيين وبعض التيارات السياسية ذات النزعة القومية المفرطة أو تلك المتأثرة أو المتحالفة مع التيارات القومية الشعبوية أن دخول أوربا في العملة النقدية الموحدة، بل بعضها يذهب، إلى أن الدخول في الاتحاد الأوربي والنزعة المتنامية في أوساط القائمين علية يخلق حالة من التماثل والاتساق في المواقف بين أطرافه بات يهدد تدريجيا هوياتها الوطنية ويفقدها خصوصياتها الإقليمية والتماهي لصالح الهوية الأوربية الجديدة التي لم يخرجوا منها بالشيء الكثير. بالإضافة لذلك فإن تنامي التيارات الشعبوية الجديدة، وقدرتها على الوصول إلى سدة السلطة في بعض البلدان الأوربية وتحديدًا في إيطاليا والنمسا ودول شرق أوربا وتنامي قوتها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، قد ينذر بتحولات سياسية على درجة كبيرة من الأهمية في المجتمعات الأوربية وهو تيار حصل على بعض الدعم مع وصول الرئيس دونالد ترامب للرئاسة الأميركية وقد يتعزّز وضعه إذا ما أعيد انتخابه لدور ثان. إلا أن الأخطر في كل ذلك تلك الكتابات التي تتحدث عن موت الديمقراطية والنظام الليبرالي القائم على الحريات المدنية والسياسية التي بدت راسخة بفعل عمق الممارسة والتأصيل القائم على توسعة مجالاتها ومستوياتها مقابل أشكال جديدة من الأنظمة التسلطية الجديدة الممزوجة بشكل واسع من الليبرالية الاجتماعية وقدر محدود من الحريات السياسية أو عدمها. مع فاعلية بدت كبيرة ومتسعة لآليات عمل نظام السوق، بل ونفوذ متزايد على المستوى العالمي، كما يمثلها النموذجان الروسي والصيني وبعض من دول أوربا الشرقية وبعض من دول العالم الثالث. وبدا هذا النموذج القادر على” تحقيق قدر كبير من الرخاء الاقتصادي وارتفاع في مستويات الدخل في ظل أنظمة شمولية أو تسلطية”. وهي نماذج باتت مقبولة وذات تكلفة سياسية أقل على مستوى العالم الثالث وذات قبول بالنسبة لمنظومة الدول الغربية.

وقد توّجت هذه الكتابات مؤخرًا بحديث بدا متزايدًا عن اختلالات هيكلية في الرأسمالية الجديدة ذات النزعة النيوليبرالية المتزايدة وهي كتابات تشير إلى أن ذلك قد لا يعني نهاية وشيكة للنظام الرأسمالي ألا أنها بداية تداعيه كنظام كان قد هيمن على العالم لقرابة الثلاثة قرون توجها بسيطرة تامة عليه خلال الخمسين سنة الأخيرة (3).

لقد حقق النظام الرأسمالي منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر الكثير من الإنجازات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بل إن التطور التكنولوجي الذي جاء معه قد حقق للإنسانية الكثير الذي لم يحققه أي نظام أخرى مر على العالم. كما أنه النظام الوحيد والذي تحديدا خلال الخمسين سنة الأخيرة من القرن العشرين، قد استطاع أن يهيمن على العالم بل ويخضع شعوبا ومجتمعات بدمجها بإرادتها أو قسرًا في النظام الرأسمالي العالمي. بل إن عمليات العولمة التي مرت على العالم لم تدع أي ركن من أركان العالم دون أن يكون جزءًا منها. فالرغبة في تحقيق الغنى والتحرر كان دافعًا كافيًا لتكون هذه المجتمعات جزءًا منه. إلا أن التخوفات التي أثيرت حينها وما زالت أن تحقيق الغنى والتحرر قد جاء كثيرًا على حساب العادات وقيم المجتمعات المحلية ولربما الاستقرار السياسي والاجتماعي بعيدًا عن نزعات النظام الرأسمالي الجديد. لقد أجبرت رغبة الصعود الاقتصادي عند بعض المجتمعات، يأخذها في ذلك بعض نماذج النجاح في شرق آسيا، على التخلي عن إطارها المرجعي المحلي المعيار الضابط للمجتمع ورذم حركيته، فلم تكسبها الليبرالية الجديدة التقدم والغنى بل جاء على حساب هويتها واستقرارها السياسي والاجتماعي (4).

قد يكون مهمًّا القول أن النظام الرأسمالي هو النظام الوحيد الذي استطاع أن يستمر قرابة الثلاثة قرون استطاع أن يطيح وأن يطوّع كل الأنظمة الأخرى التي دخلت معه في سباق التحدي والمنافسة. إلا أن النظام ذاته ومنذ تسعينات القرن الماضي وانتهاء حقبة صراع الأيديولوجيات إبان الحرب الباردة، بات يفرز مشاكل لا يبدو أنه قادر على تجاوزها سريعًا. فإخفاقات النظام وتوظيفاته ومحاولات إعادة هيكلة حزمة الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الأوربية باتت تفرز مشكلات كبطالة والجريمة وتدهور في مستوى وكم الخدمات الاجتماعية. كما أن محاولات توظيف الصيغة الجديدة منه في بعض دول العالم الثالث لم تأت بذات النتائج التي كانت تطمح لها أو أن نتائجها كانت عليه كبيره. إذ بات بعضها أو جلها يعاني من عجز اقتصادي لم تعد أطرافه الأكثر غنى قادرة على سد عجوزاتها كما أن بروز الصين على الطرف الآخر من العالم بات مهددًا لاستمرارية هيمنتها على السوق العالمي هذا إذا ما استثنينا استمرار هيمنة أوربا على سوق السلاح وسوق الاختراع. بل إن التطور الذي جاء مع عمليات العولمة، في الوقت الذي ساعد الرأسمالية كنظام اقتصادي على اختراق كل ركن من أركان العالم والذي قاد فيها هذا النظام على مدى النصف قرن الأخير تطور تكنولوجي واقتصادي هائل في الاقتصاد العالمي ورفع الدخل في بعض الدول الصاعدة اقتصاديًّا كالصين والهند، في الوقت الذي كما يقول بنجيري ودوفلوا، الحائزان على جائزة نوبل لعام 2019، جعل من قطاعات واسعة من سكان العالم الثالث ولربما جزءًا من سكان المنظومة الصناعية خارج إمكانيات الحصول على عمل رغم البحث عنه، وبالتالي الدخول في دائرة الفقر وهي الدائرة التي بسبب الركود الاقتصادي العالمي باتت تهدد من استقرار العديد من البلدان. وثانيًا الوهن الذي بات يعاني منها النظام السياسي في ظل اقتصاد ضعيف من ناحية وتنامي غير مسبوق للتيارات الشعبوية من الناحية الأخرى. وهي تيارات كما أشرنا استطاعت أن تصل لبعض البلاد وأن تغير من سياسات دول أخرى. وهو وصول سيؤثر دون شك على سياسات هذه الدول الداخلية ليست فيما يتعلق بمسألة المهاجرين والدخول والعمل والاستقرار فيها وإنما فيما يتعلق بسياساتها الداخلية القائمة على التعدد الهوياتي وعلى إدماج الأقليات المهاجرة في النظام السياسي والحياة العامة. من الناحية الأخرى فإن الوصول الشعبوي للحكم في المجتمعات الغربية قد يقود كما هو واضح على تآكل في الحريات المدنية والسياسية وإلى تقلص تدريجي في آليات العمل السياسي التي قامت عليها المجتمعات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، وإلى تضييق أكبر على مسائل العمل والإقامة ولربما التملك العقاري للأجانب.

بمعنى آخر أن انتهاء الصراع الأيديولوجي بين معسكري الحرب العالمية الثانية الغرب والشرق الأوربي وانتهاء صراعهما الأيديولوجي على النفوذ والمواقع ومصادر الثروة في تسعينات القرن الماضي واستواء النظام الرأسمالي كنظام أحادي قائم ومهيمن على الاقتصاد والسياسة العالمية، قد أفرغ الرأسمالية من وقودها الأساسي وقدرتها على التكيف والتطوير والقائم على التحدي والابتكار الاجتماعي والاقتصادي الجديد، ومن الناحية الأخرى فإن التوجهات النيوليبرالية في النظام نفسه أنهت ولربما قضت على نموذج دولة الرفاه الذي قامت عليه المجتمعات الغربية بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهي حالة قادت إلى ما آلت إليه المجتمعات الغربية في حالتها المعاصرة.

  من هنا، خرجت الدعوات القائلة بحاجة العالم لنظام جديد يتجاوز حالة الجمود والهدر الاقتصادي والكارثة البيئية القائمة. أي يتحدث هؤلاء ليس فقط عن الحاجة لترويض النزعات النيوليبرالية في الاقتصاديات الحديثة وإنما الحاجة على تكييف الكثير من التقاليد الاشتراكية الأوربية التي قامت عليها دولة الرفاه للأوضاع المعاصرة وان يكون للناس والمجتمعات دور أكبر في تحديد مساراتهم المستقبلية. أي جعل النظام وعائداته الاقتصادية والسياسية تعمل بصورة أكبر لصالح المجتمع في عمومه، لأن دون ذلك فإن اتساع حالة العجز الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة في الكثير من البلدان بات يهدّد كما يقولون الاستدامة الشرعية للديمقراطية التي في ظلها استطاعت هذه المجتمعات مواجهة التحديات والتكيف وتطويع أو حل مشكلاتها القائمة، وهي مشكلات لم تعد من حيث الحجم والنوع تقارب مشكلات هذه المجتمعات السابقة. أي أن العالم قد بات يواجه مجموعة من المشكلات الجديدة أفرتها الإخفاقات الهيكلية للنظام الرأسمالي ولربما عجزه في منظومته النيوليبراليه على تجاوز مشكلاته وهي مشكلات باتت تهدد وجوده وكينونته وقدرته على الاستمرار إلا أن العجز عن ابتكار الجديد أمام تقاليد وأسس النظام القديم يجعل من ولادته صعبة ومتعسرة إن لم تكن مشوهة في ظل غياب الرغبة في التعاون الجماعي والدولي لإصلاح النظام القائم.

المصادر”.

1. Foreign Affairs, JanuaryFebruary 20120.

2. جوزيف إي. تيغلز، اليورو: كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوربا، سلسلة عالم المعرفة،الكويت،عدد476 سبتمبر 2019.

3. Foreign Affairs, January/‏February 2020.

4. المعجزة الآسيوية كان من نصيب البعض دون البعض الآخر، فلم تستطع الفلبين وإندونيسيا. وغيرها أن تحقق ما حققته الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورا.. وغيرها. كما أن إخفاقات الأرجنتين والبرازيل وغيرها من دول أمريكا اللاتينية ينم عن ان محاولات الصعود لا تعمل بوتيرة واحد في كل الدول، كما أن استيراد الحلول من بعضها للبعض الآخر لا يعني بالضرورة أنها حلول ناجعة أو قابلة للتطبيق.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية