العدد 4073
الإثنين 09 ديسمبر 2019
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
التمكين والتنمية المستدامة: في محاورة المفهوم
الإثنين 09 ديسمبر 2019

لم يكن ابتداع مصطلح التمكين (Empowerment) على يد عالم نفس المجتمع جوليان ربابورت (Julian Rappaport) في العام 1981عملا اعتباطيا، فقد استشعر ربابورت وبفعل عمله الحقلي المعني بقضايا الرفاه والرعاية الاجتماعية والنفسية للفقراء في المجتمعات المحلية في الولايات المتحدة الأميركية، الحاجة الماسة لبعض الفئات والجماعات إلى عمل تتضافر فيه الكثير من المداخل والمؤسسات لتحقيق انتقالها الاجتماعي الاقتصادي ولربما السياسي الأفضل. إذن التمكين مصطلح قد ابتدع ليعبر عن مجموعة من الحاجات والوسائل والرغبة في إحداث التحولات التي تأتي مع تفعيله. وهي تحولات لا تقتصر على فئة أو عرق أو جنس أو نوع معين بل إن في انتشار الأخذ به وتفعيل دوره، أي المصطلح، بات يمثل ظاهرة كونية لها من الأبعاد الكثير. لقد بات الاهتمام بالتمكين متزايدا خلال العقدين أو أكثر الماضيين، وهو اهتمام شمل قطاعات كثيرة من المجتمع كما هو قد شمل فئات وجماعات مختلفة، لأسبابها الاجتماعية أو الاقتصادية أو العرقية أو الدينية أو الأقليات التي تشمل بالإضافة لذلك ذوي الاحتياجات الخاصة والمرأة. ورغم أن موضوعات مثل التمكين السياسي والاقتصادي للأقليات وتمكين الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة كانت ضمن الاهتمامات العامة العملية والبحثية بعملية التمكين، إلا أن 3 أو 4 موضوعات وهي تمكين المرأة وتمكين الفقراء أو القضاء على الفقر والتمكين الإداري قد استحوذت على دراسات التمكين، وعلى اهتمامات الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية في هذا الشأن (1).

ويعود الفضل للأمم المتحدة ومنظماتها في عولمة هذا المصطلح وتوظيفه، في الكثير من أعمالها وأنشطتها في العالم الثالث. وليس سرا القول إن المصطلح في بداية توظيفه في المنطقة العربية، مع مطلع الألفية الجديدة، قد واجه بعض الممانعات الثقافية ولربما السياسية والأيديولوجية، إلا أن بعض توظيفاته قد حققت على صعيد بعض قطاعات المجتمع بعض المكاسب، وتحديدا في قطاع المرأة، التي بفضل سياسات التمكين التي تبنتها بعض من دول المنطقة، ساعدت في إحداث بعض التوازن في حضورها مقابل الرجل، كما أنها قد دفعت نحو حضورها الملفت في بعض مواقع صناعة القرار، سواء أكان ذلك على صعيد مؤسسات السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية أو المؤسسات الخاصة، إلا أنه حضور يبقى مع ذلك محدودا في بعض المواقع، ومتوازنا مع حضور الرجل في مواقع أخرى، وهو عمل يحتاج على الدوام، وفي ظل غياب ثقافة مجتمعية قابلة وداعمة، إلى الكثير من الدعم والتبني الحكومي، خوفا من أي ارتدادات مجتمعية متوقعة.

أما الاهتمام الآخر بعملية التمكين، فقد ترافق مع تزايد الاهتمام بالقضاء على مشكلة الفقر، في بعض مجتمعات العالم الثالث، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. إذ إن الجماعات الفقيرة هي كذلك نتيجة لأسباب متعلقة بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية، التي هي جزء منها، والتي ينعدم فيها كل أسباب العيش الكريم، كما هي من الناحية الأخرى نتيجة لانعدام أي تفكير في أوساطها بالمستقبل، واعتقادها أن القادم من الزمان لن يأتي بشيء أفضل مما هي عليه أو فيه، قد أصبحت في مركز الاهتمام بقضية التمكين (2). إن الاعتراف بهذه الحقائق قد دفع مجموعة من دول العالم الثالث، مع أو بتحريض من بعض المنظمات الأممية، إلى أن تعمل ضمن استراتيجيات للقضاء على الفقر أو تقليص معدلاته في بعض المجتمعات، والذي تطلب تحقيق خلق بيئة مرحبة بالاستثمار في بعض دول العالم الثالث، كما هو العمل على تمكين هذا القطاع السكاني من امتلاك المهارات والتوقعات والسلوك ولربما الثقافة، التي تؤهله أولا على توظيف إمكاناته وقدراته الذاتية، والعمل من خلالها على تغيير كلي أو كبير للبيئة المحيطة المعيقة. وتعتبر هنا تجربة البرازيل أحد التجارب الناجحة رغم بعض إخفاقاتها، والتي من خلال تبنيها استراتيجيات التمكين استطاعت أن تقلص حجم الفقر من أكثر من 70 % من السكان في ستينات القرن الماضي إلى ما يقترب من 21 % حتى العام 2017. إلا أنه تبقى تجربة ماليزيا إحدى التجارب الناجحة في مسألة القضاء على الفقر، إذ تقلص حجم الفقر فيها في أوساط السكان المحليين، من أكثر من 50 % في مطلع سبعينات القرن الماضي، إبان حروبها الأهلية الداخلية، إلى ما دون 0.4 % حتى العام 2017. فعمليات التمكين والدمج مكنت هذا المجتمع من أن يكون أحد النماذج الناجحة في عمليات التمكين، وفي مجالات مختلفة من النهوض الاقتصادي والاجتماعي على صعيد العالم الثالث.

 

مقاربة المفهوم

قد يبرز عند البعض تساؤل، عما إذا كان مفهوم التمكين بديلا عن مفهوم المواطنة، أم إنه بديل عن المفاهيم الكثيرة التي ساقتها ولربما روجت لها منظمات الأمم المتحدة، كالتنمية والتنمية البشرية والتنمية المستدامة، أم إن في الإتيان به وتفعيلة يمثل أحد الاستراتيجيات المختلفة التي تتبناها المنظمات الأممية، أو الدول أو المفكرين في تجاوز مشكلات العوز والفقر والعزل والاستبعاد والتهميش وانعدام العدالة وغيرها، أو إن الأخذ به يساعد الدول ومؤسسات العمل في قطاعاتها الرسمية والخاصة، وفي منظمات المجتمع المدني والمنظمات التطوعية غير الربحية، على تجاوز مشكلات الفقر والتهميش والاستبعاد وغياب المرأة عن الفضاء العام، وقلة أو انعدام الكفاءة في الأداء...

من الناحية الأخرى لكون مفهوم التمكين ليس ببعيد عن كل المفاهيم السابقة، التي تبنتها الأمم المتحدة كالتنمية البشرية والتنمية المستدامة أو تلك المفاهيم التي تعمل على المستوى القطاعي المعين كالاستبعاد والإدماج... وغيرها والتي تأتي نتائجها لتعزز من عملية أو عمليات التمكين. فإن التعريف الذي تقدمه الأمم المتحد لمفهوم التمكين يقوم على ”تمكين الأفراد والجماعات من أن يكون لهم سيطرة متزايدة على مسارات حياتهم، وضبط المتغيرات والعوامل المؤثرة فيها، لزيادة موارد الرزق في حجمه ونوعه ورفع مستوى أو مستويات المعيشة للأفراد والمجتمع، والعمل على بناء إمكانيات ومهارات وسبل، وقد يشمل ذلك مؤسسات تمكنهم من أن يكونوا شركاء كاملين في المجتمع، وأن تتاح لهم الآليات والسبل والمداخل التي تنظم تأثيرهم في المجتمع ومساراته (3). أي أن تكون لهم القدرة على التأثير في التغيير وتحديد مساراته وطبيعته، كجزء ومكون من المجتمع. وهي مشاركة تأتي على أكثر من مستوى ولأكثر من قطاع. فقد يكون ذلك على مستوى المجتمع المحلي أو المجتمع ككل أو الدولة أو قطاع من قطاعاتها. كما أنه قد يكون على مستوى المؤسسات المباشرة كالأسرة أو مؤسسات العمل في القطاعات الحكومية أو الخاصة أو في مجالات عمل المنظمات غير الربحية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. وهي قطاعات تساهم بشكل رئيسي في تشكيل وتطوير إمكانات الأفراد وخبراتهم، وهي مداخل مهمة في إحداث عمليات التغيير والتنمية. ويمر كل ذلك بمراحل ولكل مرحلة أفرادها ومستوياتهم ومواقعهم السياسية والاقتصادية ولربما الوظيفية (4).

بمعنى آخر أن التمكين يقصد به مجموعة من الإجراءات والسياسات التي تنمي في الأفراد الاستقلالية والإرادة، وتكسبهم المهارات والاتجاهات التي تساعدهم على تمثيل مصالحهم تمثيلا عقلاني وبإرادة متزنة (5). من الناحية الأخرى فإن التمكين يتطلب كذلك قدرة على التكيف على مستوى الأفراد والمرونة على مستوى المؤسسات، وتقف القدرة التكيفية هنا على النقيض من عمليات التحرر، وهي التي تتطلب قدرا أكبر من التغيرات البنيوية مع بعض التأثيرات المجتمعية. وبخلاف ذلك فإننا نرى أن عملية التمكين قد تحمل نزعة تحررية أو قدرا من التحرر. أي أنها كعملية قد تعني أو قد تتطلب قدرا من التحرر من بعض التقاليد أو بعض القيود الاجتماعية، أو أنها قد تعني قدرا أكبر أو أصغر من التحرر من بعض الأنظمة والقوانين البيروقراطية المقيدة، أي قدرا أكبر مما يمكن أن نسميه بالتحرر المؤسساتي، الذي لا يقود إلى نوع من الفوضى، بقدر ما هو نوع من تجاوز بعض القيود المؤسساتية القائمة على تراتبية اجتماعية جامدة، أو على فصل اجتماعي كبير بين النوع، أو على العزل القائم على أسباب اجتماعية أو عرقية أو دينية. فحتى يستثير المجتمع ومؤسساته إبداعات أفراده، فإنه بحاجة هنا إلى قدر من التحرر من بعض ضوابطه الجامدة أو محرماته المُختلقة، حتى يتمكن من توظيف طاقاتهم ومهاراتهم ومبادراتهم في النهوض الاجتماعي والاقتصادي. وهو نهوض يبدأ عند الفرد وتمكينه وتنتهي نتائجه عند الفرد ورفاهه، أي أن عائده يجب أن يعود على الفرد والمجتمع. وهو عائد لا بد أن يتصف بالتنوع وبالاستمرارية في قطاعات المجتمع المختلفة وعبر الزمن.

 

المعنى الاصطلاحي

رغم أن مصطلح التمكين قد اشتق عن الكلمة الإنجليزية مكن (Empower) بمعنى تزويد الفرد أو جماعة من الأفراد بالوسائل والآليات، التي تمكنهم أو تعينهم على تجاوز حالة هم فيها إلى أخرى مساوية لآخرين، أو إنها تعينهم على تحديد مسارات المجتمع أو التأثير فيها. وأصل المصطلح كما يتضح قد جاء من كلمة القوة (Power) وهي هنا لا تعني القوة في ذاتها، وإن بدت للبعض مخالفة للأصل الذي جاءت منه، وقد نحتاج هنا للتفريق بين كلمة القوة على (Power over) والقوة نحو أو إلى (Power to)، فالأولى قد تعني القدرة على تحقيق نتاجات لذاتها، عندما يكون هناك صراع في المصالح، وبالتالي القدرة على ضمان استمراريتها. من هنا فإن خبرة العمل مع الجماعات المهمشة ومعدومي القوة، قد تتطلب تطويرا لقدراتهم في مواجهة ادعاءات أصحاب المصالح أو القوة المهيمنة أو لنقل جماعات المصالح والقوة، وكلما استطاع المجتمع تحقيق قدر أكبر من النجاح في هذه المواجهة أو الصراع، كلما استطاع تحقيق قدر أكبر من التمكين، وهذا يعني قدرة الآليات والوسائل على تحقيق التغيير. بالمقابل فإن كلمة القوة نحو تعني تدعيم موارد وإمكانات الأفراد لتحقيق أهدافهم. فالجماعات المهمشة ومعدومة القوة (powerlessness) تستطيع تدعيم قدراتها كأفراد وجماعات لتطوير أوضاعها وحماية مصالحها. (6)، فالتمكين هنا يعني أو أن تحقيقه يتطلب مجموعة من القضايا، بعضها قد يكون متعلق بمصادر القوة ذاتها، مفهومها الاجتماعي والاقتصادي ولربما السياسي، وبعضها الآخر يتطلب قدرا من التغيرات في ذات الأفراد والجماعات، كاكتساب المهارات والاتجاهات وتوقعات السلوك، وبعضها الآخر يتطلب قدرا من التغيير تحتاجه البيئة القانونية، ولربما أحيانا بعض القيم الدينية المنظمة، أو تلك التي تنسب إليها بعض أو كل الممارسات القائمة، حقيقة أو تخيلا، فيما يتعلق بوضع المرأة أو الأفراد وتراتبياتهم الاجتماعية والاقتصادية (7). فمثلا تتطلب دعوات تمكين المرأة التي نسمع عنها في جل المجتمعات العربية بشكل عام، تتطلب بالإضافة للإرادة السياسية الداعمة لذلك، قدرا من التغيرات المهمة في الثقافة الذكورية المهيمنة على المجتمع، والتي تستند في الكثير من عناصرها لمنظومات تقليدية: اجتماعية وأخرى تشريعية وأخرى ثقافية وأخرى قد تكون سياسية... فالتمكين كما نراه هنا قد يُحدث مثلا مشاركة أكبر للنساء في سوق العمل، أو لربما حضورا أكبر في بعض المواقع المتقدمة في الدولة والقطاع الخاص، أو في تأكيد حضورهن في مجالس تشريعية، إلا أنه قد لا يحضر بذات القدر في السياقات الثقافية أو القانونية ولربما السياسية والدينية المنظمة، والمُحددة لتوجهات الناس وتوقعاتهم. أي تلك العناصر أو العوامل المُمكَنة من استمرارية الثقافة الذكورية أو هيمنتها في المجتمع، أي تلك الثقافة والممارسات الممكنة من استمرارية حالة اللا تساوي في حصص وفرص وموارد الرجل مقابل المرأة، أو بالأحرى في حصص الأفراد والجماعات بشكل عام في المجتمع. وتغيير كل ذلك ليس مستحيلا، إلا أنه يتطلب تضافرا في الجهود الرسمية (الدولة) والأهلية (المجتمع المدني وأفراده)، ويحتاج لفسحة زمنية وتكيف مع تغيراته المهمة، التي قد تمس السياقات والرؤى ذات السطوة أو القوة في المجتمع والتي وفقها تُحدد المواقع ومراتب وحصص الأفراد والجماعات والصبر عليها.

فالممارسات الاقتصادية والاجتماعية للقوة في المجتمع، تجعل من أفراده متقبلين لحالة اللا تساوي في الحصص والمراتب على أنها أمر طبيعي ووضع لا يمكن تغييره. ويبقى مع ذلك التساؤل فيما إذا كانت عمليات التمكين قادرة على أن يكون النساء وجماعات العوز والفقراء والشباب والأقليات قادرين على التأثير في التغيير أو إحداثه كجزء من المجموعة أو المجتمع. أي تمكين كل هذه الجماعات والفئات من أن تكون قادرة على التأثير في مستقبل حياتهم في المحيط الذي هم جزءا منه.

ويأتي هنا أحد تقارير البنك الدولي بقضية هي باعتقادنا في غاية الأهمية، وهي قدرة الجماعات المستهدفة على توسعة قدراتها وإمكاناتها بالطريقة التي تمكنهم من التحاور ومحاسبة المؤسسات المؤثرة في حياتهم. وهي مؤسسات متعددة القطاعات والمستوى، بعضها ذو طابع دولي وبعضها الآخر محلي، وبعضها الآخر دولاتي (من الدولة) وبعضها متعلق بالقيم أو المعتقدات المستمدة من الدين، ومن مؤسسات وأفرادها الرسميين وغير الرسميين في القطاع الحكومي والأهلي، وبعضها الآخر لا مرئي أصبح الفضاء السيبرني منصته للانطلاق أو العمل، وبعض هؤلاء لا نعرف مصدره أو الأشخاص الراعين له (8).

ويتوقف نجاح عملية عمليات التمكين على أربعة متطلبات أساسية وهي: (9)

1. القدرة على إحداث تغير في المناخ المؤسساتي السائد، والذي في إطاره تستمر حالة الوضع القائم. أي قدرة الجانب المؤسساتي الرسمي على إحداث تغيير في رؤاه وتوقعاته، وهو تغير قد يتطلب أحيانا تغيرات أساسية في هياكل هذه المؤسسات والقوانين والاستراتيجيات، والأحكام التي تعمل في إطارها، وقد يمتد ذلك لبعض الأفراد القائمين عليها، والذين بفعل الزمن قد أعادوا تشكيل هذه المؤسسات، وفق انحيازاتهم الجندرية أو الأيديولوجية أو العصبوية. وقد يشمل ذلك المنظمات الدولية العاملة في الحقل وبعض المنظمات المحلية.

2. ويتبع ذلك أو قد يسبقه تغير في طبيعة البناء الاجتماعي، ولربما السياسي القائم والذي في ظله أو بسببه تستمر حالة اللا تمكين.

3. القدرة على تطوير قدرات وإمكانات الفئات المستهدفة، ليس فقط من حيث المهارات والاتجاهات والتوقعات، وإنما العمل على إحداث تغيرات تشمل خلق بيئة مجتمعية تمكن هؤلاء من خلال عملية تفاعلية من توظيف وتطوير قدراتهم وإمكاناتهم، وتغير في نظام الحوافز والمكافآت، وتبدل في المتغيرات الحاكمة والمؤثرة في العلاقة التفاعلية القائمة بين الفئة أو الفئات المستهدفة والفاعلين الأكثر قوة في المجتمع من أفراد ومؤسسات.

4. قدرة الفئات المستهدفة على أن تكون كتلة مؤثرة ليس فقط في محيطها الاجتماعي والثقافي المحلي، وإنما كذلك قدرتها على إحداث قدر من التغيير الإيجابي في مواقف وسياسات المؤسسات المؤثرة وشخصياتها منها كجماعة اجتماعية ومجتمع محلي.

من الناحية الأخرى فإن تغيرا في قدرات وإمكانات الفئات المستهدفة قد لا يعني شيئا إذا لم تفتح الفئات المؤثرة في المجتمع أمامها فرص ومجالات التمكين والدمج. فسقوط الأمل في التغيير في أعين الجماعات المستهدفة، قد يحمل معه مصاحبات اجتماعية ولربما سياسية كبيرة. من الناحية الأخرى فإن الجماعات المستهدفة مطالبة على تحييد ممانعاتها الاجتماعية والثقافية من قيم وتضامنيات، وكسر حالة العزل الاجتماعي في بعده الجندري أو الاثني أو الديني، وقد يكون لبعض حالات الفساد السائدة في ممارسات الجماعة سببا في تعطيل أو إفشال مشاريع وسياسات التمكين القطرية والدولية. وتقدم تجربة فشل عمليات التمكين في بعض الدول العربية أمثلة مهمة على الدولة الذي لعبته بعض القوى والتضامنيات الاجتماعية من دور في إفشال أو تعطيل عمليات التمكين.

5. إن قدرا من الدعم الحكومي المتمثل في الدعم المادي والدعم التشريعي والإعلامي، قد يكون مطلوبا لكسر حاجز الممانعة، من قبل الجماعات المستهدفة ومحيطها الاجتماعي وتحقيق عملية التمكين.

مجالات التمكين.

يحدد البنك الدولي 3 قطاعات رئيسة لعمليات التمكين، والتي تتضمن مجالاتها الفرعية المختلفة وهي على النحو التالي (10):

1. الدولة. والتي يتميز الفرد أو الجماعة فيها بكونه فاعل مدني وتشمل القطاعات التالية:

- العدالة.

- المشاركة السياسية.

- الخدمات العامة كالصحة والتعليم وخدمات الدعم الاجتماعي... وغيرها.

2. القطاع الاقتصادي، وفيه يكون الفرد أو الجماعة ناشط اقتصادي وتشمل القطاعات التالية:

- السوق.

- السلع.

- الخدمات الخاصة.

3. المجتمع، والذي يكون الفرد أو الجماعة فيه من الفاعلين والناشطين على مستوى الفرد والجماعة. وتشمل القطاعات التالية:

- العلاقات التداخلية على مستوى الأسرة والعائلة والعشيرة.

- العلاقات التداخلية على مستوى الجيرة (الأحياء) والمجتمع المحلي.

- العمل التمكيني الكلي على مستوى المجتمع والبلاد ككل.

 

معضلة قياس التمكين

إحدى أهم معضلات عملية التمكين هي كيفية قياسها. فالتمكين كعملية لها جانب مستتر متعلق بقدرة عملياتها على إحداث قدر من التغيير في الذات الاجتماعية للفرد والجماعة وبالتالي المجتمع، وهو الجانب الأصعب في القياس، خصوصا أننا نعمل في بيئة اجتماعية وثقافية ونفسية ولربما سياسية غير محددة الضوابط وغير محسوبة النتائج أو التوقعات، أو أن نتائجها البائنة غير مضمونة الارتدادات. ولا ننسى أننا نعيش في منطقة عرفت بارتداداتها الاجتماعية والثقافية، ولن نشمل هنا ارتداداتها السياسية الكبيرة في عقودها القليلة الماضية. فالارتدادات التي واجهتها الحداثة في المنطقة العربية على أصعدها المختلفة تفضح ذلك، كما أن المنطقة العربية تمثل أحد أهم التجارب التي اتسمت فيها عملية التنمية بارتباك تراكمها المتصاعد وارتداداتها الكبيرة، بخلاف كثير من مجتمعات العالم الثالث التي رغم بعض تقلباتها إلا أن عملية التنمية قد استمرت فيها بشكل تصاعدي، وبدت مقدمة لنماذج في الصعود التنموي ككوريا الجنوبية والهند والصين وماليزيا... وغيرها، بالمقابل فإن قياس عمليات التمكين في جانبها الكمي والظاهري هو الجانب الأكثر سهولة، وقد يكون مضللا في بعض الأحايين. وتنقل مواقع التواصل الاجتماعي نوعا من النوستالجيا (nostalgia) والحنين للماضي في عرضها لصور نسائها وجامعاتها وطلبتها، وبنية بعض مدنها الأساسية، قبل 5 عقود أو أكثر مقارنة بالحالة التي باتت عليها الآن.

مرة أخرى فإن التمكين كعملية تعني نهاية لحالة وبداية لحالة أخرى، أي أنها كعملية لابد أن تكون مستمرة وديناميكية ومتجددة، إذ بفعلها ينتقل المجتمع بأفراده إلى حالة أو نهاية جديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية، ينخرط فيها الناس بصورة أكبر في عمليات الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي الجديدة. كما أنها على الجانب الآخر تعني ثقة في الذات أكبر وشعور بالكرامة والاحترام والعيش دون الخوف من العوز والبطالة والبطش. كما تعني رفع في كفاءة أداء العاملين من موظفين وعاملين في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وتحسين أوضاع جماعات الفقر وتحسن أوضاع المرأة والأقليات من حيث حضورهم ومشاركتهم في الفضاء العام (11).

كما لا بد من تأكيد حقيقة أنه قد تكون هناك مقاييس عامة يمكن أن تساعد في قياس بعض مؤشرات التمكين في جل الدول كقياس حق العمل ومعدلات انخفاض العنف الأسري ومؤشرات ارتفاع معدلات انخراط المرأة في العمل ومعدلات انخفاض الفقر وغيرها، إلا أن بعض المقاييس الأخرى لابد وأن تتسم بالخصوصية الثقافية لمجتمعات بعينها. ففي بعض المجتمعات الريفية ولربما البحرية منها في العالم الثالث لم يكن خروج المرأة خارج المنزل أو في عملها مشكلة تعاني منها هذه المجتمعات، وبالتالي لا يعتبر خروجها أو انخراطها في ميادين العمل ظاهرة جديدة، إلا إذا ما كان ذلك الأمر متعلقا بكونها أعمال حديثة ومختلطة. كما أن هناك بعض الأمور والظواهر تُقتلع من سياقاتها الثقافية والاجتماعية المحلية فتخرج نتائج مقاييسها الغربية مغلوطة أو محرفة أو ملتبسة على الباحث غير الدارس للمنطقة. فمثلا لا يمكن النظر للحجاب على أنه مقيد لحريات النساء ومعيار على “تخلفهن”، فهو أي الحجاب كما تشير في ذلك العديد من الدراسات يمكن النظر إليه، في بعض حالاته، على أنه أداة أو وسيلة تعطي النسوة قدرا من الحرية في التنقل، وقدرا من الأمان في بيئات العمل المختلطة، بل إنه يعطي بعض الأسر المحافظة في المجتمعات الإسلامية قدرا من الاطمئنان، وذلك بالسماح لبناتهن بالعمل خارج المنزل، وفي مجالات العمل الحديثة المختلطة (12).

بالإضافة لذلك فإنه رغم أن الكثير من الدراسات قد ركزت على التمكين من جانبه ومؤشراته الاقتصادية، فإن القليل منها قد تناول التغيرات التي يمكن أن تحدثها عمليات التمكين على الأفراد من الناحية السيكولوجية، حيث وجد أن عمليات التمكين التي تمت في بعض المجتمعات المحلية لخفض معدلات الفقر، أو لتمكين المرأة، أو في أوساط بعض الأقليات، أو حتى في بعض مؤسسات العمل، إن عمليات التمكين كان لها تأثيرها الإيجابي في رفع درجة الرضا الشخصي للأفراد، ودرجة التزامهم بضوابط العمل الحديث وقيمه، ونزوعهم نحو إحداث التغيير في أوساط أسرهم وفي إطار المجتمع المحلي والمجتمع الأوسع. بل لوحظ إن هؤلاء الأفراد قد باتوا يتمتعون بدرجة عالية من السعادة والفرح والاستقرار الأسري والاجتماعي في حياتهم الخاصة (13).

إلا أنه تبقى الخطورة المدمرة لبعض عمليات التمكين متمثلة في محاولة بعض المؤسسات أو القوى هو بث الخوف في أوساط الجماعات المستهدفة ومحيطها الاجتماعي بقصد اندماجها في برامج الدولة أو بالامتناع عن بعض أنماط السلوك المعطل، وهو الأمر الذي ينزع عن عملية التمكين جانبها بل عنصرها الأخلاقي والإنساني. فإثارة الفزع والخوف في أوساط الجماعة قد ييسر بعض خطوات عمليات التمكين أو دفع الناس نحو المشاركة فيها، إلا أنه يجعل منها مشاركة زائفة ويبطل الأهداف التي من أجلها قامت عملية التمكين.. إن زرع الخوف في أوساط الناس لجعل عملية التمكين ممكنة، ويزرع بذور عدم الثقة في العلاقات الإنسانية في إطار العمل والجيرة والمجتمع، وينزع الثقة في العلاقة بالسلطة في مؤسسات العمل، وفي علاقة المجتمع بالدولة، ونزع الخوف يتطلب بيئة مجتمعية وعلائقية خالية من العنف والجريمة (14). ويشوب بعضا من عمليات التمكين الاجتماعي والسياسي والتي تفتقر أحيانا إلى قدر من الاتفاق أو القبول المجتمعي العام، قدر من التخويف إما من السلطة لدفع الجماعات المستهدفة للانخراط فيها أو من قبل الجماعات المعارضة للامتناع عن الاندماج فيها. ويتم كل ذلك وفق مسوغات سياسية أو دينية أو لأيديولوجية أحيانا.

 

الخاتمة

خلاصة القول إن مفهوم التمكين من الاتساع لا يمكن حصره في قطاع معين من قطاعات المجتمع دون الآخر، كما أنه لا يمكن أن يحدث في الفضاءات الخالية بقدر كونه عملا مجتمعيا مستمرا مكملا وداعما لعمليات التحديث والتنمية. بمعنى آخر إن التمكين عملية عامة وإن تمت بشكل قطاعي، وهي عملية مستمرة وليست مؤقتة، تهدف إلى تمكين كل جماعات المجتمع وأفراده من الاندماج والمشاركة في عمليات التنمية. وهي بنزوعها نحو تمكين الأفراد والقطاعات بأدواتها وآلياتها، فإنها بذلك تساهم في تحقيق عمليات التنمية المستدامة إن لم تكن هي جزءا أساسيا وأصيلا منها. وهي وإن كانت تحدث في المجتمعات النامية والصاعدة في سلم النهوض الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنها كذلك أداة تمكين القوة في المجتمعات الصناعية الكبرى.

 

المصادر

1. انظر

Julin Rapaport and Robert Hess, Studies in Empowerment: Steps Toward Understanding and Action, London, Routlege, 1984.

2.

Deepa Narayan, Measuring Empowerment Cross Disciplinary perspective, Washington, World Bank, 2005. p.5

3.انظر

Patrice Desmons, Citizenship or Empowerment: another effort؟2018.

4.

Manuela Pardo de Val and Bruce Lloyd, Measuring Empoerment: Leadership and organization, Development Journal, March, 2003.

5.

نفس المصدر السابق

6.

Jim Croweher, Defining and Measuring “empowerment” in Community Based Project, Concept, Vol.4.No.3, Winter 2013, p.2.

7.

نفس المصدر السابق

8.

Deepa Narayan, opcit, p.5.

9.

Ibid, p.5.

10.

Ibid

11. انظر

Nicola d. Lincoln etal, The interdisciplinary etymology of a new management concept, International Journal of Management review, 2002.

12.

World Bank, Empowerment in practice: analysis and Implementation, Washington, world Bank, may 2007.

13.

World bank, 2005, opcit, p.17-22

14.

Deepa Narayan, opcit, p.5

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية