العدد 4009
الأحد 06 أكتوبر 2019
banner
قردة “الشامبانزي” على مقاعد البرلمان!
الأحد 06 أكتوبر 2019

تحدثنا بقدر من الإسهاب قبل أسبوعين عن كيف ولماذا تتعرض الديمقراطية الليبرالية في الغرب للضغط وللضرب مما أدى إلى تراجعها.
وكما هو معروف، فإن البرلمانات هي القلب والعمود الفقري للنظام الديمقراطي، وفي بريطانيا، أم الديمقراطية الغربية ومهدها وحاضنتها، فإن البرلمان فيها يمر الآن بمرحلة حرجة ومقلقة من الانقسام والتشرذم وسيطرة الانفعالات والنقاشات الحادة على أعماله وبالأخص حول موضوع “بريكست” أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى درجة أن رئيس مجلس العموم جون بيركو وصف الحالة مؤخرًا بأنها “أسوأ جو يشهده البرلمان” وبالنتيجة، فقد أصبح أداء البرلمان وأعضائه يتعرض لامتعاض وتذمر المجتمع البريطاني وتهكمه وتنذره وسخريته.
وإذا كان الفن هو نبض حياة المجتمعات ومرآة لمتغيراتها الفكرية، فقد صادف وجودي في لندن الأسبوع الماضي الإعلان عن عرض لوحة زيتية كبيرة للمزاد العلني في الثالث من هذا الشهر. وقد نظمت المزاد دار “سوذبيز”، وهي مؤسسة مرموقة متخصصة في إجراء المزادات للأشياء والمقتنيات الأثرية أو النادرة أو المميزة.
اللوحة رسمها الفنان البريطاني الغرافيتي “بانكسي” واسمها “ديفولفد بارلمنت” أو “البرلمان المنحدر” يصور فيها الفنان قاعة البرلمان البريطاني وقد ملأ مقاعدها قردة من فصيلة “الشمبانزي”.
وقد اهتمت جميع وسائل الإعلام البريطانية بهذه اللوحة، وأكد المتخصصون في الفن والسياسة أنها تعكس الواقع، وأنه لن يكون هناك وقت أفضل من هذا الوقت لطرح هذه اللوحة للمزاد، فقد تحول ما يدور في البرلمان البريطاني خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية إلى مسلسل تلفزيوني درامي ليس بالنسبة للمملكة المتحدة فقط، بل بالنسبة لكل أوروبا والعالم أيضًا.
وقال رئيس قسم الفن المعاصر في دار سوذبيز: “نحن نشير هنا إلى تراجع مستوى أقدم ديمقراطية برلمانية في العالم إلى سلوك حيواني نشاهده على شاشات التلفزيون”، وكان من المتوقع أن تباع هذه اللوحة بسعر يتراوح بين 1.5 و2.5 مليون جنيه إسترليني، إلا أنها بيعت بقيمة وصلت إلى أكثر من 9.8 مليون جنيه إسترليني.
حالة الانشقاق والتخبط التي يمر بها البرلمان البريطاني نتجت عن فشل مجلس العموم في اتخاذ القرار والموقف الحاسم لتنفيذ نتيجة استفتاء 2016 والانتقال ببريطانيا إلى مرحلة ما بعد “بريكست”، أو ما بعد عضوية الاتحاد الأوروبي، كما أنها نتجت في الأساس عن تصاعد التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة التي يمثلها في بريطانيا رئيس الوزراء بورس جونسون وجماعته، وهو تطور أدى إلى تصاعد الصراع والانشقاق في المجتمع البريطاني، وأصبح المشهد بالفعل يدعو إلى التندر والسخرية وإلى التذمر والقلق.
بريطانيا تمر الآن بمأزق سياسي، فالشعبويون مثل الطائفيين والأصوليين والقوميين يجلبون معهم الانشقاق والصراعات في المجتمعات، ورغم رسوخ وتجذر الممارسات والحياة الديمقراطية في بريطانيا، فإنها ليست محصنة ولم تشذ عن هذه القاعدة، فأصبحت التطورات في الساحة السياسية البريطانية تنذر بتغيرات جذرية.
والبريطانيون حائرون، فقد تسرب وتوغل الانشقاق والصراع إلى أعلى المؤسسات الدستورية، رئيس الوزراء أصدر أمرًا صدقت عليه الملكة يقضي بتعليق أعمال البرلمان لشهر واحد استعدادًا وتوطئة لحسم موضوع “بريكست”، إلا أن أعضاء مجلس العموم رفضوا الأمر واعتبروا هذه الخطوة تجاوزًا لدور البرلمان وانتهاكا وتهديدا للنظام الديمقراطي البريطاني، ورفعوا القضية إلى المحكمة العليا التي أصدرت حكمًا الشهر الماضي بإلغاء القرار، وأكدت فيه أن الذات الملكية قد دُفعت إلى التصديق على قرار غير دستوري.
وبما أنه ليس محظورًا في السياسة نبش القبور وفتح الملفات القديمة عند الضرورة، فقد وجه معارضو بورس جونسون تهمة الفساد له على خلفية جريمة جنائية محتملة تتعلق بسوء استخدام منصبه، وتتلخص التهمة في أن سيدة الأعمال الأميركية جينيفر أركوري تلقت معاملة خاصة من صديقها بورس جونسون عندما كان عمدة لمدينة لندن في الأعوام من 2008 إلى 2016، حيث ألحقها بالبعثات التجارية التي كان يقودها، وأن شركتها، نتيجة لذلك، تلقت آلاف الجنيهات على هيئة منح مالية.
إن الساسة البريطانيون يدركون عدم صلاحية بورس جونسون لمنصب رئيس وزراء بريطانيا العظمى، إلا أنهم لا يجدون أي خيار آخر أفضل منه، وهم لذلك وعلى كل حال يفضلونه على البديل الوحيد وهو منافسه رئيس حزب العمال البريطاني “جرمي كورباين” الذي يعد الناخبين باتباع سياسات شديدة الانحراف لليسار عندما يتقلد سدة الحكم، ويتعهد لهم باتخاذ وتنفيذ خطوات وقرارات تشمل مصادرة 10 % من أسهم الشركات الكبرى لصالح الدولة، وإجراء عمليات تأميم كاسحة، وإلغاء المدارس الخاصة بضمها إلى سياق التعليم الحكومي، وتقنين نظام أربعة أيام عمل فقط في الأسبوع، وغيرها من الوعود المقلقة للكثيرين.
وقد أكدت مجلة الـ “إيكونوميست” البريطانية في عددها الأخير: “أن الأقدار قد شاءت أن تواجه بريطانيا في هذه المرحلة الحرجة الخيار بين أسوأ رئيس وزراء وأسوأ رئيس للمعارضة في تاريخها”.
حيال هذا المشهد يمكننا أن نتوصل إلى جملة من التساؤلات والخلاصات والعبر أهمها؛ أن الديمقراطية الليبرالية تمر الآن بمرحلة اختبار عصيبة أو احتضار في الغرب وغيرها من الدول، وأن هناك تمردا متزايدا على المؤسسات والصيغ القائمة وعلى السياقات التقليدية، وأننا ربما كنا منبهرين ومنخدعين بما كنا نظنه أو نصفه بالقيم والمبادئ الغربية، وأن الديمقراطية وصناديق الاقتراع لا تشكلان عائقا أو سدا منيعا في وجه التطرف، بل إنهما الجسر والنفق الذي عبر من خلاله المتطرفون إلى كراسي الحكم، هكذا فعل هتلر وموسوليني وعشرات غيرهم، وهكذا فعل الإخوان المسلمون في مصر ولو لفترة قصيرة. وهذا ما حصل ويحصل في إيران وتركيا، وهكذا فعل الشعبويون والمتطرفون للوصول إلى كراسي الحكم في عدد متزايد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة والهند وغيرها.
كما يمكننا أن نستنتج أن السياسة لم تعد في حاجة إلى عمالقة وقامات سامقة، وأن الساسة لم يعودوا في حاجة إلى لبس الأقنعة والتظاهر بالاستقامة والنزاهة والاتزان والرزانة، وأنه لا مانع من أن يظهروا على حقيقتهم ويكونوا مشاكسين ومناكفين ومتقلبين أو حتى كذابين، ولا مانع من التنكر للقيم والمبادئ ولم يعد مستنكرًا انتهاك الأساليب والأعراف والتقاليد السياسية والدبلوماسية المستقرة.
ويمكننا كذلك أن نتساءل هل الغرب يعيش الآن في حالة انقلاب على قيمه ومثله كرد فعل طارئة تجاه تحديات العولمة والإرهاب والبطالة المتفاقمة وتدفق المهاجرين؟ أم في حالة “ردة” واستيقاظ واستنهاض لغرائز ظننا أنها اندثرت؟ ألم تكن ممارسات الاستعباد والاستعمار والتمييز والتهميش والإقصاء بضائع غربية في الأساس، نحن العرب كنا من بين ضحاياها لفترة من الزمن؟
أليست الشعبوية بضاعة غربية في الأساس أيضًا انتعشت وازدهرت في أوروبا في القرن الماضي بشكل واضح ولافت وتصادمت مع قوى المجتمع فيها فنشبت الحروب الكونية التي خلفت الدمار وحصدت الملايين من أرواح البشر؟ هل احتاجت أوروبا إلى فترة نقاهة تمكنت من اجتيازها مؤخرًا فعادت حليمة إلى عادتها القديمة إلى أصلها وتراثها، وخرج الشعبويون والغلاة المتطرفون من جحورهم ومن خلف أستار الظلام إلى النور وإلى العلن بأعلامهم وبيارقهم وراياتهم وطبولهم ودفوفهم وسيطروا بسهولة على الساحة والتربة التي كانت مهيأة في الواقع؟ لذلك فقد لمعت وجوه مثل دونالد ترمب وبورس جونسون وغيرهما، وصعدت الأحزاب اليمينية في فرنسا وألمانيا بسرعة وحققت نتائج متقدمة في الانتخابات، وهذا ما يؤكد أنها تعكس اتجاهات وتيارات كامنة وقائمة في المجتمع والشارع السياسي، من بينها تيارات متطرفة قريبة أو شبيهة بالنازية والفاشية.
مع ذلك فمن الأفضل أن نكون متفائلين، وأن نؤمن بأن المجتمعات الغربية قد تم تضليلها، وهي في الأساس مقتنعة ومؤمنة ومتمسكة بالديمقراطية وقيمها ومبادئها، وأنها ستدرك حتمًا بأن ديمقراطيتها قد ظُلمت واختطفت وسُلبت وجُردت من قيمها، وأن هذه المجتمعات ستنتفض وتهب لتخليص وتطهير وتحرير ديمقراطيتها واستعادتها وإعادة الاعتبار إليها بالطرق والوسائل السلمية والدستورية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية