العدد 3967
الأحد 25 أغسطس 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
اكتئاب العظيم (30)
الأحد 25 أغسطس 2019

اذا أفرطت في حب الأشياء خصوصا، إذا وقعت أسيرا في الحب فأنت على موعد مع الاكتئاب والقلق والرنح وهو فقدان انتظام الحركة، وقصور الانتباه، وتصاب بمتلازمة التعب المزمن، وقد تسقط مدمنا حيث يقودك الحب للهروب الى إدمان الخمرة أو الافيون او القمار. كل ذلك من أجل نسيان ما يوجعك من هذا الحب القاتل، والأكثر خطورة هو الهوس الاكتئابي - Bipolar Disorder حيث تهوي

من القمة إلى الهاوية / الحضيض. من نشوة الشغف والجنون إلى هاوية الاكتئاب. من التهور والاندفاعية إلى اللامبالاة. هذه هي الحالات المتطرفة المنسوبة إلى الهوس الاكتئابي (أو: الاضطراب ثنائي القطب)، وعندما تحول جرحك الى حائط مبكى، تذرف عليه الدموع، وتنذب الحظ، فإن لم تسع الى حرق (الذكريات الجميلة)، وقتل الفراغ بمزيد من الأنشطة المتنوعة فسوف تقع ضحية، ووليمة دسمة لوحش الاكتئاب. لا شيء يستحق الحزن، لا حب ولا مال ولا منصب ولا شهرة. رافق النورس، والتحف بالسحاب، ورافق الشمس، واستمتع بتنوع الموانئ. كثير من عظماء التاريخ ولأنهم لم يتجاوزوا وجع الماضي كانت نهاياتهم مأساوية، فأسطورة الأدب الإنجليزي، فيرجينا وولف، والتي كانت تقارن بـــ ( مارسيل بروست ) في فرنسا و( ديستوفسكي ) في روسيا في إنسانية كتاباتها وقوتها هزمها الاكتئاب، فرغم شهرتها، ونجاحها الباهر في الثقافة والأدب واللغة، وهي القائلة: (اللغة كالنبيذ على الشفاه) سقطت بين أنياب وحش الاكتئاب. كانت إذا حزنت تستدعي كل الأحزان. يقول الراوي الإنجليزي تشارلز ديكنز صاحب إبداعية رواية (أوليفرتويست): “إن المرء إذا حزن استدعى كلَّ أحزانه السابقة، كأنّ حُزنًا واحدًا لا يكفيه” .فرجينيا رغم أنها من من عائلة إنجليزية ثرية، وتمتلك منزلا على نهر يلهمها في رواياتها، وأبوها كاتب، ومثقف ورياضي يتسلق الجبال، وأمها ممرضة مؤلفة، وزوجها خبير اقتصادي إلا أنها إذا حزنت استدعت الذكرى المؤلمة لتحرش أخيها بها يوم كانت طفلة صغيرة، وموت حبيبها، وموت أمها وهي صغيرة، وبعدها أختها غير الشقيقة بعدها بعامين، فاستسلمت للكآبة والوحدة. وبعد عام توفي شقيقها توبي بسبب إصابته بالحمى التيفية وفي الأخير مات أبوها. صدمات قادتها للاستسلام. وفي عام 1940 تهدّم منزلهما خلال تفجير الألمان للمدينة. هذه الروائية تعد أحد أحجار ألماس التاج الأدبي البريطاني، فلا يمكن لمن يقرأ الأدب الإنجليزي إلا أن يلتحف بدفء كلماتها، ورؤيتها للحياة، لكنها في النهاية استسلمت لما يسمى بـالهوس الاكتئابي أو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب Trastorno bipolar. وارتدت فيرجينيا وولف معطفها، وملأته بالحجارة، وأغرقت نفسها فى نهر أوز. كذلك الأمر لأسطورة الموسيقى الروسية تشايكوفيسكي الذي ألقاه الحب إلى نحو الاكتئاب، والموت البطيء ثم نهاية مأساوية. وكلنا نعرف الأحزان المتراكمة التي تكدست بقلب كاتب الإنسانية، فيكتور هيجو بعد فقد أحبابه. أما الأديب الروسي تولستوي فبدأ صراعه مع الاكتئاب في منتصف عمره. وما أجمل شعر الجواهري في أبي العلاء المعري:

وللكآبةِ ألوانٌ، وأفجعُها .. ‏أن تبصرَ الفيلسوفَ الحرَّ مكتئِبا!

إنه لشيء مؤلم أن تجد عظيما ومكتئبا، وهو الأحق بالحياة، وجمالها، والسعادة فيها. لا تتعلقوا بالأشياء، فتقتل كل جميل في حياتكم، لو فقدتموها. تعلق زليخة بالنبي يوسف أفقدها المُلْك، وأعمى بصرها، وقادها للفقر والغربة حتى راحت وصيفاتها ينهبن  آخر متعلقاتها. صحيح أن إصرار أميرة أسبانيا (كاثرين آرغون) على حب أمير إنكلترا قادها للحكم؛ لكنها فقدت الكثير، وورثت شكه في الزواج المستكمل الشروط بأخيه. تعلق ديانا بالأمير دمر حياتها إلى كارثية النهاية المؤلمة بباريس. يقول جبران خليل جبران: “لا تَقترب ما دُمت لن تَبقى!” فكيف إذا تعلقت؟ وأن تعلق الأديبة مي زيادة بوالديها، وبحب جبران قادها للاكتئاب، حتى أدخلت المصحة النفسية في لبنان ظلما بتهمة الجنون للاستيلاء على ما ورثته من أبيها.

إن العلاقة مع الله هي التي أوجدت التوازن في قلب زليخة تجاه يوسف، لأن التعلق ذهب لمكانه الصحيح، وإن الله لا يقبل في عبودية الحب إلا له، والكون يدفع نحو ذلك. جان جاك روسو، الذي زرت قبره في مقبرة العظماء بباريس، ظل كفيلسوف مؤمنًا بالله، والعناية الإلهية، فكان الأكثر اطمئنانا ممن أعرفهم من الفلاسفة. اترك التعلق ولا تناقشه، و”لراحة بالك اصمت كأنّك لم تفهم، وتجاهل كأنّك لم ترَ، وإن السقُوط في الاكتئاب مُجرّد حادثة، أمّا البقاء في أسفله فهُو اختيار”.

كم يحزننا أن نرى العظماء يلفهم الحزن، كما حدث للإمام علي (ع)، حيث كان غريبا في كل حياته، حتى اتهم بعدم درايته بالحكم والسياسة، إلا أنه بقي جبلا، ولم يستسلم للآلام. كان غريبا حتى من الجمهور، وهو القائل: “لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ ... وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَلَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ”.

وأجمل ما يقال للعظيم ما نسجته الأديبة سعاد الصباح:

يا أيّها النسر المضرج بالأسى

كم كنت في الزمن الردئ صبورا. ما كان يمكن أن تعيش لكي ترى

باب العرين، مخلّعا .. مكسورا

صعبٌ على الأحرار أن يستسلموا

قدر الكبير بأن يظل كبيرا. شربت خيولك دمعَها وصهيلها

كيف الخيول تموت؟ لاتفسيرا

ماعاد بحرك أزرقا، ياسيدي

فكأنما صار النهار ضريرا.

وكما يقول الفيلسوف الإنجليزي بيرتراند راسل “لا أخشى فراق أحد أبدا، من يرحل اليوم، يأتي من هو أجمل منه غدا”.

إن أكبر عامل لاكتئاب العظماء، وإن تنوعت المصائب، هو تعلق القلب بحبيبة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية