العدد 3946
الأحد 04 أغسطس 2019
banner
خليفة بن سلمان... القائد والإنسان
الأحد 04 أغسطس 2019

عديدة ومجيدة هي تلك المواقف التي تشرّفت أن أكون فيها قريبًا من رئيس الوزراء الموقر صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، حفظه الله ورعاه، دونها سجل الذاكرة في دائرة القضايا السياسية حينًا، وفي محيط الجوانب الإنسانية حينًا آخر، وكلها تعطي خلاصة واحدة: أننا أمام رجل له من السمات ما يميزه طيلة مسيرة عطائه.

وإذا نظرنا النواحي الإنسانية، يأخذني سجل الذكريات إلى حقبة الثمانينات، ولم أكن وقتذاك قد دخلت كوزير في الدولة، عندما توفي المغفور له ابنه الشيخ محمد رحمه الله، فقد ظهر خليفة بن سلمان في ذلك الموقف وفي ذلك الظرف، كأي أب حنون متألم على فقد أعزّ ما لديه في الحياة، وفي الوقت ذاته، تجلى الإنسان الصلب الذي أثبت رباطة جأشه وقوة احتماله، وهي من الخصال الإنسانية والقيادية التي تميز القادة، ثم سجلت الذاكرة أيضًا مشهدًا آخر عندما توفي المغفور له بإذن الله تعالى سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراه، والذي كانت تربطه بسمو الشيخ خليفة علاقة وثيقة وصداقة ومودة واحترام متبادل بينهما علاوة على رابط الأخوة، ولسنوات طويلة، كان سمو الأمير خليفة كما هو معروف، السند القوي لأخيه سمو الشيخ عيسى، وكان سمو الشيخ عيسى الداعم الأكبر لجهود سمو الشيخ خليفة.

هذا التوافق بين الاثنين لم يكن له مثيل، كما أعتقد، وقد أدّى إلى تلك المرحلة المزدهرة من نمو البحرين وتطورها ومقدرتها على مواجهة أخطر التحديات، ومن بينها التحدي الذي برز بعد قرار بريطانيا الانسحاب مما سمي في ذلك الوقت (شرق السويس) والمعنى هنا الانسحاب من منطقة الخليج، وبشكل مباشر جعل هذه الدول مكشوفة ووضعها في دائرة الأخطار، وعلى الخصوص البحرين التي كانت تواجه التهديد الإيراني بضمها إليه، وهو تهديد يؤدي بلا شك إلى القضاء على الهوية، وهذا من أكثرها أهمية لكيان الأمم (أي الهوية)، وواجه سمو الأمير خليفة هذا الموقف بقوة وشجاعة وتمكّن بحنكته وحكمته من أن يجد حلًا حمى البحرين وهويتها وعروبتها واستقلالها وكيانها وسيادتها.

لقد كان خليفة بن سلمان، ونحن نتكلّم من الناحية السياسية، صلبًا وواجه شاه إيران وجهًا لوجه في ذلك الوقت، وقال له بالحرف الواحد: “إذا تمكنت من أن تطأ أرض البحرين كما تهدّد، فستجد جثتي أول ما تقع عليها قدماك في تلك الأرض”، وحري بنا الإشارة هنا إلى أن شاه إيران - وعلى الرغم مما له وما عليه - فقد كان رجلًا عاقلًا وسياسيًّا متمكنًا، ولذلك أدرك ما يواجهه من تحدٍّ، وفضل حفظ (ماء الوجه) لكي يغطي انسحابه أمام هذه الشخصية القوية.

ولسموه منهجه وأسلوبه الفريد في الاهتمام بالمحافظة على أواصر المودّة ضمن إطار الأسرة الواحدة بين أبنائه.. لقد أشرت أعلاه إلى ما سجلته الذاكرة حال وفاة المغفور له الشيخ محمد رحمه الله، وكان ذلك أحد الأمثلة الأولى التي دونتها قبل ثلاثة عقود من الزمن، واليوم، أراه عن كثب كيف يهتم ويشارك في تخرج أحفاده، وأحدث مشهد هو تاريخ 11 يوليو/‏ تموز 2018، في حدث مهم وكبير حينما حرص على حضور أول طلعة جوية لحفيدته الملازم ثاني طيار الشيخة عائشة بنت راشد آل خليفة بطائرة (هوك) الحربية القتالية، وكانت أسارير الاعتزاز والفخر بادية على محياه.. إن هذه الأحاسيس كنت أجدها دائمًا تبدو واضحة على وجه سموه عندما يلتقي بالناس، وهي مَلَكَة باهرة، وواحدة من الخصائص التي تميز بها خليفة بن سلمان، وتفنن فيها وأتقنها، وتتجلى في تواصله وأسلوبه في اللقاء الناس، وقد حباه الله أيضًا بذاكرة قوية جعلته يعطي بعدًا أعمق في التعبير عن إحساسه تجاه من يقابلهم.

في هذا السياق، وعندما رافقت سموه في زياراته لعدد من دول الخليج، شاهدت ووجدت ورأيت بعيني كيف أن خليفة بن سلمان يصف الأماكن والمراعي وأماكن الصيد والقنص وأين تسكن القبائل، سواء في المملكة العربية السعودية أو دولة الإمارات العربية المتحدة أو في دولة قطر أو دولة الكويت، بل رأيت أن أهل المنطقة أنفسهم لا يمتلكون القدر ذاته من المعلومات، بما في ذلك حفظ أسماء المناطق النباتات والأشجار وأسماء الطيور التي تستوطن تلك المنطقة، وكذلك عيون الماء ومناطقها، علاوةً على السهول والأودية وكل تلك المناطق كان على دراية بها وزارها، أضف إليها معرفة القبائل وأصولها، وهذا موروث إنساني وفكري واجتماعي عظيم يتمتّع به سموه رعاه الله.

أما عن فلسفة سموه في دعم التضامن الخليجي والعربي والإسلامي، فإن (خليفة بن سلمان) يعيش إحساس المرارة والألم لما يجده من تشتت في العالم العربي الإسلامي، وعلى وجه الخصوص ما يلم بالأسرة الخليجية، وكان يدعو دائمًا إلى التعاون والتنسيق وانتظام اللقاءات.. تلك الثوابت يطرحها باستمرار عندما يلتقي بمسؤولي دول الخليج، ويحرص على إيصال هذه الرسالة من خلال لقاءات منتظمة مع سفراء هذه الدول في البحرين، والتي تحظى بالتغطية الإعلامية وتتضمن مواقف سموه، فخليفة بن سلمان يدرك تمام الإدراك أن قلب دول الخليج هي المملكة العربية السعودية الشقيقة، وهو يدعو دائمًا وأبدًا إلى الالتفاف حولها وإلى التنسيق معها في كل ما يتم في هذه المنطقة، وقد أثبتت الأيام أن انعدام هذا التنسيق وانعدام هذا الالتفاف حول المملكة العربية السعودية أدى إلى ما حصل الآن من تشرذم وتفتت.

كان خليفة بن سلمان ضد الحروب وضد إثارة النعرات الداخلية في الدول العربية، وخصوصا بين دول الخليج، إلا أنه كان لا يتفق مع أسلوب القوة في إحداث التغيير، وذلك إدراكًا منه بما سيؤدي إليه ذلك من مخاطر جمّة، تنسحب على دول المنطقة بشكل عام، وهذا ما حصل بالفعل.

وليس أزكى مسك ختام وطيب حديث، ونحن نتحدث عن (خليفة بن سلمان)، من أن نعبّر عما نحمله في قلوبنا من حب كبير لقائد عظيم، تبصر أعيننا بصماته في بناء بلادنا.. أينما يمّمنا وجوهنا، وفي كل زاوية من مسيرة البحرين. دعوات صادقة بأن يحفظ الله هذا البلد الكريم، قيادة وشعبًا، وينعم عليه بالأمن والنماء والخير والنهضة.

 

* مقال تم نشره في كتاب “رمز العطاء وسيرة الوفاء -خليفة بن سلمان مجد الوطن” الذي قام بتأليفه عادل عيسى المرزوق

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية