+A
A-

"كلمة" للترجمة يصدر ترجمة رواية "في المرفأ"

ضمنَ كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ التي تصدر عن مشروع "كلمة" للترجمة في دائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي، صدرت ترجمة رواية "في المرفأ" للكاتب الفرنسيّ ويسمانس، ترجمها عن الفرنسية الكاتب والمترجم المغربيّ محمّد بنعبود، وراجع الترجمة وقدّم لها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم في باريس كاظم جهاد.

في روايته هذه يبدو جوريس كارل ويسمانس Joris-Karl Huysmans وهو يجرّب العثور في الرّيف على مهرب ممكن لبطليها من عالم المدينة الاستلابيّ وعلاقاتها المترهّلة غير العديمة الارتباط بصعود الرّأسماليّة والتّصنيع الطاغي. جعل شخصيّتَيها المحوريّتين جاك مارل وزوجته لويزا يلجآن إلى الرّيف بعد انهيارٍ ماليّ مبعثه انعدام روح التّدبير لدى الزّوج، واستغراقه في عوالمه الحلميّة والفنيّة بعيداً عن كلّ حسٍّ عمليّ. جاءا ليقيما في قصرٍ مهجور وضعه تحت تصرّفهما زوج عمّة لويزا، الفلّاح الشّيخ أنطوان، المؤتمَن على القصر. بيد أنّ المآل المُحبَط لإقامة الزّوجين في القصر الرّيفيّ المتداعي، المتعذّر على البيع وعلى السّكنى، يتبدّى لهما ما إن يطآ بأقدامهما أرض الرّيف. وسرعان ما تشمل آثار ذلك علاقتَهما بالمكان، بسكّانه، وبالقريبَين الفلّاحَين، مضيفَيهما العجوزَين الجشعَين. صفحةً صفحةً يسطّر ويسمانس هذا الانحدار المتدرّج بلغة شديدة التّحديث وعالية التشخيص يرصد فيها أدقّ دقائق المكان، وإسقاطات دوافع البشر عليه، وأدنى الانتحاءات النّفسيّة للأفراد، والتّخبّطات الصّامتة لدواخلهم المكتظّة.

بالرّغم من حاجة جاك إلى رحابة الفضاء، سرعان ما يشكّل له القصر المتآكل ومحيطه الرّيفيّ نوعاً من المعتقل. وإذا بالمقارنة مع نمط العيش ومعانقة المكان في العاصمة تفرض نفسها على نحوٍ أليم. يدور جاك في أروقة القصر وغرفه العديدة المتداعية لا يلوي على شيء. ويتعرّض هو وزوجته للسعات بقّ الخريف الضارية، ويخوضان ضدّها نضالاً مريراً لا طائل فيه. ثمّ يُلفيان نفسيهما مجبرين على اقتسام غرفة واحدة في نوعٍ من التّعايش الاضطراريّ كانت سعة شقّتهما بباريس تحميهما من أضراره. هذا التّلاصق الجسديّ والنّفسيّ الدّائم يسرّع من تباعد الزّوجين الذّهنيّ. وممّا يفاقم من ضيقهما مرض لويزا وتشنّجاتها وأورام ساقيها الغريبة التي تظهر وتغيب بلا منطق. وقد لا يكون من قبيل الصّدفة أنْ تفاقمَ مرضها هذا مع وصولهما إلى الرّيف.

ليومٍ أو اثنين، يستعيد الزّوجان الباريسيّان تقاربهما عندما يتعاونان لإنقاذ قطّ جاء ليُحتضر في الغرفة التي كانا يشغلانها في القصر المهجور. ومع تدهور حال القطّ يفرض نداء العودة إلى باريس نفسه، وما عاد في مقدورهما أن يقاوماه.

وُلد ويسمانس في 5 فبراير 1848 في باريس لأمّ فرنسيّة وأب هولنديّ. اشتغل طيلة حياته موظّفاً إداريَاً، مكرِّساً بقيّة وقته لعمله الأدبيّ عن شغفٍ ومُتعة، وتوفّي عن مرض عُضال في 12 مايو 1907. بعد بدايات شعريّة وسرديّة متّأثّرة بالرومنطيقيّة، انخرط في أعمال المدرسة الطبيعيّة في الأدب، التي كان على رأسها إميل زولا. ثمّ تميّزت أعماله اعتباراً من 1881 بأبطال سلبيّين وبضرب من التشاؤم ورثه من قراءاته للفيلسوف الألماني شوبنهاور. إنّه تحوّل متدرّج مهّد لقطيعته مع جماليّات التّيّار الطّبيعيّ، قطيعة تشكّل الرواية المترجمة هنا، والصادرة في 1887، أحد أفضل نماذجها. كما برز ناقداً للأدب والفنّ، ساهمت دراساته النقديّة في تجديد الأدب الفرنسي، وكتاباته في الفنّ التّشكيليّ مشهودٌ لها بالمساهمة الجادّة في فرض الرّسم الانطباعيّ في فرنسا وفي إعادة اكتشاف روائع الفنّ الفطريّ، كما وضع كتاباتٍ مهمّة في الرّسم والمعمار الدينيّين.

وأن يكون الكاتب، رغم جهل الجمهور العريض لأعماله، أحد أهمّ الممهّدين لرواية القرن العشرين، فذلك ما أكّد عليه، بين آخرين كثْر، أندريه بروتون في اثنين من مؤلّفاته. كتب في روايته الشّهيرة "نادجا": "في تقييم ما يَعرض للإنسان والاختيار ممّا هو موجودٌ انطلاقاً من انحيازات اليأس، أجد لي مع ويسمانس، في عملَيه "في المرفأ" و"هناك"، طرائق مشتركة هي من الوفرة بحيث يبدو لي، وإن لم تُتَح لي للأسف معرفته إلّا من خلال أثره الأدبيّ، أنّه ربّما كان أقلّ أصدقائي بُعداً عنّي". وكتب في "أنطولوجيا الدعابة السوداء": "بوضوحِ بصيرة لا يُضاهى، وقوّة ابتكارٍ خالصة، صاغ ويسمانس أغلبَ النواميس التي تحكّمت لاحقاً بأشكال العاطفة والانفعال المعاصرة، وكان أوّل من نفذ إلى مكوّنات نسيج الواقع وارتقى في روايته "في المرفأ" إلى ذرى الإلهام". 

أمّا مترجم الكتاب، محمّد بنعبود، فهو من مواليد إقليم تطوان بالمغرب، سنة 1957. حاصل على الإجازة في اللّغة العربية من كلّية آداب فاس، وعلى دبلوم كلّية علوم التّربية بالرّباط. له رواية "قصبة الذئب" (اتّحاد كتّاب المغرب) ومجموعة قصصية "تجاويف" (منشورات وزارة الثّقافة المغربية) وسنياريوهات أفلام تلفزيونيّة. من ترجماته روايتا "المصريّة" و"ابنة النيل" لجيلبرت سينويه (منشورات الجمل)، وروايتا "اغتيال الفضيلة" و"مخالب الموت" لميلودي حمدوشي (منشورات عكاظ)، وكتاب "لقاء" لميلان كونديرا وستّ روايات لستيفان زفايغ، (المركز الثّقافي العربيّ) و"طرديّات" وثلاث روايات للناشئة لألكساندر دوما (مشروع "كلمة" للترجمة).