العدد 3898
الإثنين 17 يونيو 2019
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
صعود الشعبوية السياسية في المجتمعات الغربية
الإثنين 17 يونيو 2019

رغم شيوع استخدام مصطلح الشعوبية في الخطاب الإعلامي والسياسي اليومي، إلا أنه من الصعب الوقوف على تعريف دقيق لها، ورغم أنه كمصطلح قد يعني في بعض جوانبه: ذلك الخطاب المشحون بالعاطفة والموجه في الغالب نحو الطبقات الشعبية بقصد استمالتها وحشدها ضد النخب السياسية القائمة أو ضد النظام السياسي أو سياساته” إلا أن كثافة استخدامها بات يقصد منه تنديد بالطرف المنعوت أكثر منه شرحا لطبيعة خطابه أو سياساته. وهي كحالة لا تخص الأنظمة الشمولية ذات الإيديولوجية المحددة التي تحكم النظام كما هي في حالة النظام الكوري الشمالي أو النظام الإيراني أو أيا من الأحزاب والجماعات السياسية العربية المعروفة بخطابها القومي أو الاسلاموي. بل باتت ممارسته وتوظيفه تشمل في ذلك أنظمة وشخصيات في الديمقراطيات الغربية المعروفة. فخطاب الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد كان قد وصف بكونه خطابا شعبويا كما هو خطاب الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب. بل ان خطاب وزير الخارجية البريطاني المستقيل يوريس جونسون لم يبتعد كثيرا عن الشعبوية سواء أكان في موقفه من الاتحاد الأوربي بل والمعادي لبريكست أو في موقفه الذي وصف بأنه تحريضي ضد مسلمي بريطانيا. (1)

والشعبوية كأداة كان قد وظفته الفئة المتزعمة في حزب المحافظين الحاكم في بريطاني، للتعبئة والحشد الجماهيري أبان عملية الاقتراع على “بريكست” في بريطانيا وقبل ذلك كان أداة ناجحة وظفها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حمالاته الانتخابية العام 2016 ولا يزال. بمعنى آخر أن الشعبوية كأداة للحشد والتعبئة قد وظفته الحركات اليمنية كما هي القوى الراديكالية واليسارية. بل إن تنامي حضور القوى الشعبوية في الديمقراطيات الغربية يطرح تحديا جديا حول مستقبل الديمقراطية في هذه المجتمعات، أو كما يشير ليفيتسكي وزيبلات الاستاذان في جامعة هارفرد في كتابيهما الأخير “كيف تموت الديمقراطيات”، أنها قد تكون سببا في موت الديمقراطيات الغربية. وهو موت لم يعد يتم بانقلابات عسكرية وتعليق لمواد الدستور وإنما هي عملية تتم من خلال العملية السياسية والديمقراطية ذاتها. بل إن تخوفه يذهب به للقول إن الديمقراطية الأميركية ذاتها معرضة لهذا التراجع بصورة أكبر مما قد يتصور البعض. وهو تراجع يعزو بعضه إلى الصعود القوى لقوى اليمين والشعبوية في العملية السياسية الأميركية.

 

الانتخابات والاقتراعات بيئة للتعبئة الشعبوية

يدلي الاشخاص بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية متأثرين في ذلك أما بالبيئة المحيطة وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية ولربما نزعاتها الدينية أو أنهم يدلون بأصواتهم لوعود قطعها المرشح على نفسه بحل مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية أو بوعود سياسية يطلقها لفئة من الناخبين كوعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لناخبيه أو داعميه الماليين من اليهود. وقد يطلق المرشح دعوات وشعارات تبدو في بعضها أو جلها عنصرية أو أنها تستهدف جماعة من الناس لمعتقداتها الدينية أو أوضاعها الاجتماعي ولربما للون بشرتها وأشكالها الفيزيقية، من منطلق أنها سبب لبعض المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية التي يعاني منها الناس كالجريمة والبطالة.. وغيرها هي كلها أو بعضها وعود وشعارات تثير حماس الناس وعواطفهم ولربما في بعض الاحيان نوازعهم البدائية التي قد تصل لدرجة الانتقام.

وكل هذه شعارات ووعود بعضها أو جلها غير قابلة للتحقق وهي في طرحها هذه، قد تأتي ببعض المصاحبات المدمرة على نسيج المجتمع وعلاقة مكوناته المختلفة بعضها ببعض وقد يكون قريبا من هذا تلك النزعات العنصرية التي حاول الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش بثها والتي قادت لنهاية الاتحاد اليوغسلافي ونهاية الدولة الاتحادية.. وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إن مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اللاتينيين والمسلمين ولربما السود الأميركيين قد أثارت عند البعض نوازعه البدائية كما أنها قد تعيد للمجتمع كما هي الادارة السياسية بعض السياسات القائمة على اساس الدين والعرق واللون أو أن تفتح على المجتمع ابواب صراع اجتماعي قائم على هذه المعطيات.

 

تحولات كونية نمر بها

من الناحية الأخرى فانه من الواجب أن نقر وندرك أن هناك تحولات باتت تجتاح العالم وأن هذه التحولات لا يمكن عزوها إلى سبب اقتصادي أو سياسي محدد كما لا لا يمكن نسبها إلى شخصية محدده في العالم وأن بدت الأمور تنسب لها. فما نلاحظه إن هو إلا نتيجة لأحداث وتحولات سبق ذلك بكثير أو قليل من السنين. وأعتقد ما نحن فيه إن هو إلا مرحلة من مراحل التحول التي بدا العالم في جله داخل فيها. فالعالم كما تقول الفورين أفيرز، في عدد مايو ويونية من العام السابق، يشهد ما تسميه الفورين افيرز بموت الديمقراطية أو ما اسميه “بأفول الديمقراطية” وهو أفول حددته المجلة في مجموعة من السمات قد يكون أهمها:1-مركزة القوة في السلطة التنفيذية أو في شخص رئيسها وهو أمر بتنا نشهده في حالات روسيا والصين وتركيا وفي كثير من حالات العالم الثالث. وان محاولات الرئيس الأميركي ترامب أن يخرج عن ضبط السلطات التشريعية والقضائية دائما ما تواجه بردات فعل الطبقة السياسية المعارضة أو الاعلام الاميركي أو أنها محاولات لم تنجح وقد لا تنجح لأسباب متعلقة بترسيخ قيم المؤسساتية في إدارة الدولة وهو الأمر الذي تفتقر إليه الدول الأخرى.2- التسييس الذي بات يخضع له القضاء وأحكامه.3- التضييق على الاعلام المستقل والحد من تأثيره ولقد لاحظنا ذلك بشكل جلي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في يوليه 2016، والتي بفعلها أغلقت الكثير من القنوات التلفزيونية والجرائد المستقلة أو المعارضة 4- توظيف الطبقة السياسية حضورها واستوائها على مراكز السلطة لتحقيق مكاسب شخصية لها أو للجماعات القريبة منها، 5- وأخيرا الصعود القوى للحركات الشعبوية في المجتمعات الغربية ووصول المؤثر للسلطات التنفيذية والتشريعية في هذه البلدان. ولربما التقاء أهداف بعضها مع أهداف قوى اليمين واليمين المحافظ على مجموعة من الملفات قد يكون أهمها قضايا الهجرة والهوية الوطنية ومستقبل الاتحاد الأوربي.

وأعتقد بأن الديمقراطية في مواقعها التقليدية في أوربا الغربية كما هي في بعض مواقعها الجديدة في أوربا الشرقية وفي جمهوريات آسيا الوسطى ولربما في بعض دول القارة الأفريقية واميركا اللاتينية باتت تمر بأحد أصعب مراحلها. فاليمين المتطرف في فرنسا كان على وشك القفز إلى السلطة كما أنه قد وصل لمقاعد الحكم في النمسا وإيطاليا والنمسا وهو ذو حضور برلماني مؤثر في المانيا، وقد جاءت النتائج الأخيرة لانتخابات البرلمان الأوربي لتؤكد من حقيقة أن اليمين الأوربي وبعض القوى الشعبوية الأوربية قد يكونون قريبين جدا من الحكم وأن خيبات الطبقة السياسية الحاكمة باتت تقربهم من ذلك أكثر فأكثر. بل أن مواقف بعض دول أوربا الشرقية وإيطاليا من المهاجرين ورفض دخول اللاجئين إليها إن هو إلا انعكاس لحضور اليمين المتطرف والقوى الشعبوية في حكوماتها. من الناحية الأخرى فأن بروز نماذج للنهوض الاقتصادي والقوة السياسية المؤثرة على الصعيد الدولي في دول غير ديمقراطية كما هي في حالتي الصين وروسيا بات يشكل تهديدا ليس فقط لعمليات التحول الديمقراطي في دول العالم الثالث والنهوض الليبرالي وإنما هو كذلك في ان يكون ذلك نموذجا قابلا للتبني لبعض الدول الجديدة الصاعدة في العالم الثالث أو الدول التي أصبح فيها التحول نحو الديمقراطية يواجه ممانعات مؤسساتية كما هي ممانعات ثقافية وسياسية يطرحها السياق القائم أو بعض قوى المجتمع السياسية والاجتماعية.

 

أسباب صعود الحركات الشعبوية

فما هي إذًا أسباب هذا الصعود الكبير لقوى اليمين والقوى الشعبوية في النظام السياسي الغربي. وأعتقد بأن هناك مجموعة من الأسباب يمكن تحديد بعضها في التالي:

أولا. واحد من أهم أسباب هذا الصعود هو التدهور الاقتصادي لبعض الدول الأوربية كإيطاليا والنمسا واسبانيا واليونان. وهو تدهور وظفته القوى الشعبوية لتأكيد فشل قوى اليمين المحافظ والاشتراكية في تحقيق معدلات أفضل من النمو الاقتصادي وتقليص حجم البطالة في هذه المجتمعات وقف تدفق المهاجرين واللاجئين والذين إليهم أو بسببهم باتت تنسب الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.

ثانيا. فساد الطبقة السياسية التقليدية: المحافظة والاشتراكية والتي بسببها دخلت أوربا في الكثير من المغامرات السياسية الخارجية وفي أزمات اقتصادية كانت مصاحباتها على هذه المجتمعات كبيرة ومؤثرة.

ثالثا. عجز الوحدة السياسية والاقتصادية الأوربية (الاتحاد الأوربي) عن تحقيق حلم الصعود الاقتصادي لدول الأطراف الأوربية في أوربا الشرقية وفي اليونان والبرتغال وإسبانيا. وهو فشل قاد إلى نقمة على هذا الاتحاد ودعوات للخروج منه. لقد بدا هذا الموقف جليا في حالتي اليونان والبرتغال. بل باتت هذه الدعوات تأتي من داخل البيت الأوربي التقليدي وقد لا يكون الخروج البريطاني آخرها. وهو تفكك بات يستهوي قوى قادمة من عبر المحيط.

رابعا. إن الخطاب الشعبوي الأوربي والمتبنى من قوى اليمين واليمين المتطرف قد وجد طريقه في أوساط الفئات الشبابية الجديدة التي لم تخبر فكر وإيديولوجيا الحركات الاجتماعية التي جاءت على أوربا في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي والتي في ضوئها صيغت وتبلورت الكثير من الحركات الاجتماعية والسياسية المعروفة في أوربا وفي العالم الثالث. إن مثل هذا الصعود وقدرته على الوصول إلى مراكز السلطة في بعض الدول الأوربية كإيطاليا والنمسا واقترابه من تحقيق ذلك في فرنسا ولربما ألمانيا، وهو اقتراب يطرح تساؤلات كثيرة حول ما أشيع عن الحصانة الثقافية للناخب الأوربي من الانزلاق نحو القوى الشعبوية واليمين المتطرف.

خامسا. تراجع عمليات الدمقرطة عن دول كانت على أعتاب الدخول إليها كتركيا ودول شرق أوربا ودول أخرى كانت في الطريق. بل أن العالم بدا ينظر لنماذج من الصعود الاقتصادي في دول لم تتحقق فيها وبشكل كبير حريات سياسية واسعة ودمقرطة مثل الصين وروسيا. فصعود بعض هذه الدول الاقتصادي وقدرة بعضها على تحقيق بعض حاجات سكانها يعفيها من البحث عن ضمانات تحقق لها الشرعية العقلانية.

فتركيا الجديدة التي جاءت مع صعود حزب العدالة والتنمية في مطلع العقد السابق هي ليست تركيا التي تشكلت بعد أحداث انقلاب يوليه من العام 2016. بل أن قدرا من الشعبوية السياسية في خطاب الطبقة السياسية الجديدة باتت تستقطب قطاعات واسعة من الناس رغم أزمات تركيا الاقتصادية ورغم تدهور علاقاتها السياسية مع جل الدول الأوربية والولايات المتحدة الأميركية.

وختاما فأنه يمكن القول إن جل الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية باتت في سياساتها متأثرة بالتوجهات الشعبوية لقوى اليمين المتطرف، هذا بالإضافة لحقيقة أن اليمين المتطرف والقوى الشعبوية الاوربية باتت في سدة الادارة السياسية لبعض دول أوربا. إذ وكما يشير تقرير مجلة الفورين بولسي الأميركية إن هذه العملية بدأت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وتسارعت خلال العقد الأول من الألفية، والآن تسفر عن تغير سيأسى غير مسبوق. فخلال عقد واحد بين عامي 2004 و2015، انخفض متوسط نسبة التصويت للأحزاب التقليدية السائدة في أوروبا بمقدار 14 % ليصل إلى 72 %. وتضاعفت نسبة التصويت للمنافسين الشعبيين الجدد سواء كانوا من اليسار أو اليمين لتصل إلى 23 %. وتعرض يسار الوسط لخسائر غير مسبوقة. وفي العديد من الأنظمة السياسية، وصلت المشاركة بالتصويت للأحزاب التقليدية إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة.. وفي ألمانيا تراجع الديمقراطيون الاجتماعيون في العام الماضي ليحققوا أسوأ نتيجة لهم منذ عام 1933.(2).

وهو حضور بات يعيد تشكيل كل السياسات الأوربية المتعلقة بجالياتها الأجنبية والحريات الاجتماعية والسياسية كما هو بات يعيد تشكيل مواقف وسياسات هذه الدول من قضايا حقوق الانسان وسياسات الهجرة واللاجئين. وهي أطروحات بدت وكأنها تتلاشى تدريجيا عن الخطاب السياسي الخارجي لهذه للدول كما هي للولايات المتحدة الأميركية. بل أن محاولات بعض قادتها الجدد الخروج من المؤسساتية الضابطة للفعل السياسي لهذه الدول تستهوي بعض ساستها أو قادتها الجدد فشخصنة أو مركزة القوة باتت واحدة من سمات التحولات السياسية الجديدة في العالم. ولربما تبدو الحالة الجديدة والمهمة التي افرزها وصول اليمن الأوربي للحكم في دول مثل بولندا وهنغاريا لم يساهم فقط في تكيفه واندماجه في الخطاب والقوى الشعبوية وإنماء هذه الحكومات عملت على إضعاف المؤسسات الليبرالية القائمة كالمؤسسات التشريعية والمحاكم الدستورية وقلصت من هامش الحريات الصحفية وحدة من أنشطة منظمات المجتمع المدني المستقلة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية