العدد 3845
الخميس 25 أبريل 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
المجد والاكتئاب “8”
الخميس 25 أبريل 2019

لا أشعر بالوحدة ولو كنت مسافرا بحقيبة مثقوبة بجروح، مادام هناك على أرض الحضارة رصيف يتيم، وفنجان قهوة يشاطرك غربتك، وكتاب معرفي يوقد المصابيح في شوارع عقلك المليء بالأتربة. كان ميكافيللي يختبئ خلف معاطف كتبه مستمتعا بسهرة معرفية مع كتب الفلاسفة. ما أجمل أن يكون أصدقاؤك فلاسفة وشعراء وكتابا. أنا في كل ليلة أرتب طاولة السهرة وأحضر الشاي والقهوة كنادل معرفي، يطرق بابي نزار قباني، وهوجو، وبودلير، وبيتهوفن، ولامارتين، وجون لوك، ودافينشي، وأوسكار وايلد، ومونتسكيو، نسهر حتى الصباح نتبادل كؤوس المعرفة، ونحتسى أطيب الأفكار. هذه رئة من رئات كوكتيل الحياة التي أدعو لها عظماء المجد، ألا يقصروا المعرفة على علم، ويغفلوا عن بقية العلوم. كي تخرج من أسر الاكتئاب لابد من كوكتيل المعرفة، فهي العقاقير الحقيقية لمواجهة جروح الحياة. فارسطوا يعلمك الأخلاق والمنطق، وأبيقور يعلمك فلسفة اللذة، وجان جاك روسو يأخذك إلى حيث الروح والعقل، وفولتير يقرأ عليك مزامير التسامح، وكانط يوقد عصرك بالتنوير، ونيتشه يعلمك أهميةً القوة وأنت تصارع وحوش البشرية، وديوي يصر عليك بالعلم لتسيطر على العالم، وجون لوك يعزز لك أهمية الحرية الفكرية لا أن تكون عبدا عند صنم بشري أو أيديولوجي، وابن رشد يعلمك تقديس تحرير العقول. أما الإمام علي “ع”، فيعلمك كيف تكون الإنسان الكامل على الارض عقلا وقلبا وخَلقا وخُلقا. عظماء المجد اكتأبوا لأنهم إذا دخلوا زقاقا لا يخرجون منه أو لا يسعون إلى نظرية (كوكتيل الحياة)، وهي فلسفتي للحياة. وجدت أن الحب هو أكبر عامل لمتزق روحهم، وإن أسوأ شيء هو سجن الفكرة. أن تسجن نفسك في وهم عدم قدرتك على الاستمتاع بالحياة تحت حجة أنك تعيش في زنزانة الذكريات أو انتفاخ المسؤولية الخانقة أو خنجر الحب أو حساسية المنصب. يقول الماغوط “ إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء”، وهو القائل: “إنني ألمح آثار أقدام على قلبي”. من منا لا يوجد على قلبه آثار أقدام من حبيبة أو أهل أو صديق؟ أعلم أن الحب قاس، لكن القويّ هو من يتجاوزه كما قال أديب “لكل الذين أربكوا النبض بداخلنا يوما، حتى ظننا أننا لن نستفيق من قسوة الشعور، سبحان من جعلكم صفحة مطوية على رف قديم”. أقول ليس هناك أقسى من مسح ذكريات جميلة، ويوما قلت: “وما زلت أحاول جاهدا مسح ما تبقى من ذكريات، وأنا أشبه بأم تحاول خنق وحيدها”. وأتذكر أني قلت ذات يوم متألما لمشهد عاشق قتله الحب “أسائل نفسي، كيف يكون الإنسان بلا ذاكرة، كيف له أن يضع الأيام الجميلة في تابوت خشبي يحرق لتختصر الذكرى، والجسد رمادا في قارورة تلقى في بحر، وهل للعاشق الذي بنى برج الحب ذات يوم يستبدله ببناء مقبرة؟ وأقول اليوم: “وكيف للهمس والتمتمات، ورمش العيون، وقبلات اللهفة أن تستحيل جثثا متهرئة في مقبرة الذاكرة؟ أهكذا هي نهاية الحب، ولو كان معتقا، وقديما ككتدرائية نوتردام تكون على موعد مع الاحتراق!”.

“ألمُك للريح لا حاجة بي لجناحين كي أطير. وحيدا أنا في الجب لا إخوة صدق، لا يعقوب ليبكيك، ولا زليخة لتراودك، أنت بئر نفسك، ذبيح نفسك، أنت ولا دمٌ على قميصك. أنت القاتل والمقتول، تسفك دم قلبك باكيا، وتمشي في جنازتك”. اغفروا لي كلماتي المتشظية أوجاعا وخناجر عن عظماء التاريخ. أحيانا يشعر العظيم أن العالم اتفق أن يبكيه. صورة بيتهوفن ملقى على رصيف، والصبية الصغار يركلونه بأرجلهم، ويتفنون في أشد اللكمات قسوة. منظر الفيلم هزني وأنا أرى أسطورة الموسيقى تركلها أرجل أطفال بلا عقل. كيف لفان جوخ الذي رسم 2000 لوحة (لم يبع إلا لوحه بسعر بخس) أن يموت جائعا، ويكون طعامه رصاصة انتحار ثم تباع لوحاته بالملايين؟ كيف للشاعر الفرنسي لإمارتين وهو ابن النبلاء أن يقوده القدر لبيع منزله ومكتبته بسبب الفواتير ويموت فقيرا؟ على العظيم ألا ييأس للاكتئاب، ويشق طريقه للحياة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .