العدد 3841
الأحد 21 أبريل 2019
banner
أزمة الحداثة معنا.. من المسؤول؟
الأحد 21 أبريل 2019

سأبدأ بخلاصة أو زبدة هذا الموضوع، وهي على محورين: الأول هو أننا، نحن معشر العرب جميعًا، نعيش دون أدنى شك في مأزق حضاري وفي مرحلة من التخلف والتأخر والانحدار، وأنه لا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق إلا بتبني واعتناق الحداثة بأوجهها كافة، وبكل ثقة ومن دون تردد أو خوف أو وجل. والثاني أن الأنظمة الحاكمة في دولنا العربية وخصوصا الدول الخليجية، ربما لا تكون بريئة براءة الذئب من دم يوسف، إلا أنها لا تتحمل مسؤولية وتبعات ما تواجهه الحداثة من صد وتنكر ومعوقات ومثبطات في منطقتنا، بل إن هذه الأنظمة تبدو في الواقع أكثر انفتاحًا وثقة وأكثر استعدادًا ورغبة لتقبل واحتضان الحداثة من قوى وتيارات الصد والممانعة الحضارية الأخرى في مجتمعاتنا. وآخر دليل على ذلك ما يحصل الآن في المملكة العربية السعودية الشقيقة.

إن المسؤول عن عرقلة وإجهاض انطلاقنا نحو آفاق الحداثة هم الذين لا يثقون في صلابة وقوة معتقداتنا وقيمنا، ويقولون إنهم يخافون عليها، وهم لذلك يخلقون ويخترعون أو يتصورون وجود حالة من الصدام والصراع بيننا وبين مختلف تجليات الحداثة، إنهم عناصر ومكونات من التيارات والقوى الذين نصبوا أنفسهم حراسًا وحجابًا وسدنة لقيمنا ومعتقداتنا، وادعوا أنهم  أكثر غيرة وحرصًا من غيرهم عليها.

هم الذين يصرون على احتكار الحقيقة، وعلى تحريف الكلم عن مواضعه، ولغاية في نفس يعقوب، هم لا يريدون أن يفهموا ويتعمدوا أن يتجاهلوا حقيقة أن الحداثة لا تسعى إلى محاربة المعتقدات والقيم والقضاء عليها، وأن الحداثة أصبحت آلية حضارية لا غنى عنها لتوفير خيارات ضمن منظومة فكرية قائمة على جملة من القيم العقلانية التي تنطلق منها الحركة الاجتماعية العامة. ورغم أن الحداثة ولدت في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أنها مرتكزة ومبنية على مفهوم “التغيير” الذي انبثق في القرن الرابع عشر الميلادي على يد الفيلسوف العلامة ابن خلدون، الذي اعتبر التغيير سنَّة الحياة ولا مفر منه ومن دونه تصبح المجتمعات في حالة سكون وركود مما يؤدي إلى الانحلال والتفسخ، وقال: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال”، وأضاف بأنه “إذا تبدلت الأحوال جملة، فكأّنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، وأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدَث”.

وإذا اكتفينا لضيق المساحة بالتطرق فقط إلى الجوانب الثقافية للحداثة، وعدنا إلى ما ذكرناه في وقفة سابقة من أن الآداب والفنون بمختلف صورها تعتبر من أهم أسس ازدهار وتقدم أي حضارة إنسانية، ومن أهم قواعد تطورها ونموها العلمي والثقافي. وإن هناك علاقة وثيقة وترابطا قويا واضحا بين الفنون والعلوم، فالفنون تغذي العلوم وتحفز مخيلة الابتكارات والإبداعات والاكتشافات العلمية، وعندما ترتقي الآداب والفنون وتتقدم يرتقي معها التطور الفكري والعلمي والنمو الاقتصادي في المجتمع. من هذا المنطلق دعونا نرى من الذي يتربص ويضع المرشحات والعوائق ويقف في وجه انسياب العلوم والثقافات والمعارف وتدفق مختلف المخرجات والإرهاصات الفكرية والأدبية والفنية إلى مجتمعاتنا؟ ومن الذي يعارض تدريس الموسيقى والفنون في المدارس، وضغط ونجح في وقف وإلغاء حفلات وعروض فنية بعد أن وافقت الجهات الرسمية المختصة على إقامتها؟ من الذي يبتز ويضغط على الأنظمة لفرض وتشديد الرقابة على الكتب والنصوص الأدبية والفنية، ومنع بناء المسارح ودور السينما؟ ومن الذي يعوق الأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين عن الإبداع على أساس أن كل بدعة ضلالة؟ ومن الذي يحشو أفكارنا بكوابيس الخوف والرعب والفزع من الحداثة وعلوم العصر وثقافات وفنون الآخرين، أهي الأنظمة الحاكمة أم القوى والتيارات المناهضة للحداثة؟

إن حقائق التاريخ تشهد وتؤكد أن أوروبا عندما أرادت أن تخرج من غياهب الجهل والتخلف، وأرادت الزحف والانطلاق نحو التطور والنمو والتقدم عملت أولًا على تأسيس وترسيخ مبدأ احترام وصيانة الأديان وضمان حرية التعبد، ثم وضعت قساوسة الكنائس ورهبانها في أماكنهم الطبيعية في الأديرة والصوامع، لولا ذلك لما تقدم الغرب ولما استطاع أن يكتشف أن الأرض تدور حول الشمس أو يكتشف الكهرباء أو ينتج كل هذه الأدوية والعلاجات أو يتمكن من تحقيق هذا الكم الهائل من الاختراعات والاكتشافات التي نحن الآن نتمتع بها مثل السيارات والطائرات والمكيفات وأجهزة الاتصالات والآلاف غيرها من المخترعات والمكتشفات التي ليس لأي عالم عربي أو مسلم الفضل في أي منها، إن حرية الأديان والتعبد التي كفلتها أوروبا تحت ظلال الحداثة هي التي أتاحت للمسلمين اليوم بناء المئات وربما الآلاف من المساجد في أوروبا، وغيرها من الدول التي اعتنقت الحداثة.

إسرائيل، التي أقيمت على أساس ديني قبل 70 عامًا فقط، قد أُنشئت منذ البداية فوق مرتكزات قوية من الحداثة، وقد ألحقت بنا الهزيمة تلو  الأخرى، وهي متفوقة ومتقدمة علينا بأشواط طويلة في كافة المجالات! ربما لأننا لم نسمع أن أحد من أحبارها وحاخاماتها عارض أو تصدى لأي وجه من أوجه الحداثة الغربية؛ بحجة الخوف والحرص على المعتقدات والقيم اليهودية.

الشنتو هي ديانة الأغلبية في اليابان، تتبعها البوذية، وإمبراطور اليابان له مكانة وصفة دينية مقدسة، وهو الذي قاد عملية اقتحام اليابان لكافة آفاق الحداثة، وجعل اليابانيين يفتحون أبوابهم وصدورهم وعقولهم أمام نفحاتها، ولم نسمع أن كهنة الشنتو أو الكهنة البوذيين في اليابان أبدوا أي قلق أو تخوف على مصير معتقدات وقيم كلتا الديانتين، وبفضل الحداثة، فقد تم انتشال اليابان من أوحال التخلف وتم الصعود بها إلى مصاف الدول المتطورة المتقدمة، ولا يزال اليابانيون يعتزون ويفخرون بقيمهم وأصالتهم وتراثهم وخصوصياتهم ويتمسكون بها، وقد حرصوا على أن يتضمن دستورهم مادة تحمل رقم 20 تنص على أن “حرية الدين مضمونة للجميع. لا يجب أن تحصل أي منظمة دينية على أي دعم مالي من الحكومة، أو أن تقوم بأي نشاط سياسي”.

في الصين وكوريا الجنوبية الوضع مشابه للحال في اليابان وفيتنام في الطريق.

لماذا لا نكون إذًا مثل اليابانيين، إذا لا نريد أن نكون مثل الأوروبيين؟ لماذا نظن أن معتقداتنا وقيمنا ضعيفة ومستهدفة ونضعها في مواجهة وحرب مع الحداثة؟

يبلغ عدد سكان الهند اليوم أكثر من 1.3 مليار نسمة، غالبيتهم العظمى من الهندوس، وقد عشت فيها لفترة طويلة ولا أزال أزورها وأتردد عليها بانتظام، ورأيتها، بعد أن نالت استقلالها في العام 1947م، تنطلق مقتحمة تخوم الحداثة وحصونها إلى أن تمكنت من تبوء مركز متقدم بين دول العالم المتطورة، وأصبحت قوة اقتصادية ونووية صاعدة مع قدرات تصنيعية وعلمية هائلة مكنتها من إطلاق وإرسال مركبات للفضاء وللمريخ، ولم نرَ أو نسمع أن أيًا من الكهنة الهندوس كان قد فتح فمه ليعترض على دخول الحداثة إلى الهند بحجة أنها تهدد المعتقدات والقيم الهندوسية.

يبدو أن الفكر العربي هو الفكر الوحيد الباقي الذي يواجه إشكالية مع واقع “الحداثة” في هذا العصر، ولذلك لا يسعنا إلا أن نتمنى من الله العلي القدير أن يمن علينا بالهداية والسداد والتوفيق، وأن يمكن هذه الأمة من تخطي هذه الغمة ومن النهوض من كبوتها واللحاق بركب الحضارة والتقدم والمساهمة في إسعاد الإنسانية، إنه سميع مجيب، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية