العدد 3834
الأحد 14 أبريل 2019
banner
الجمهوريات العربية الملكية الوراثية!
الأحد 14 أبريل 2019

تقول الرواية، والعهدة على الراوي، إنه عندما مرض ديكتاتور إسبانيا الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وكان مستلقيًا على فراش الموت قبيل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال له سكرتيره الخاص: إن جنرالات وقادة الجيش الإسباني يستأذنوك بالدخول للسلام عليك وتوديعك، فأجاب بصعوبة وصوت خافت “لماذا؟ أين سيذهبون؟”.

لم يكن الجنرال فرانكو مستعدا لأن يقبل أو يقتنع بأن النهاية قد حانت وأزفت، وهذه هي سنة وطبيعة الرؤساء الدكتاتوريين، فقد تولى الجنرال فرانكو السلطة المطلقة في إسبانيا لمدة 36 سنة بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت من العام 1936 حتى 1939م.

ولاشك أن الكل يعرف عن “الإنفلونزا الإسبانية”، وهي إنفلونزا خطيرة قاتلة ومعدية إلى درجة مخيفة، وقد انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم، وحصدت أرواح الملايين من البشر، ولكن يبدو أن “إنفلونزا فرانكو” هي أيضًا حالة مرضية معدية أصابت رؤساء الجمهوريات العرب، وكان آخر ضحاياها اثنين من الرؤساء المعمرين، الأول كان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الذي اضطر، مكرهًا ومرغمًا، قبل بضعة أيام، إلى الاستقالة من منصبه بعد حكم دام 20 عامًا، قبل أن يتمكن من تثبيت شقيقه سعيد بوتفليقة لخلافته في رئاسة الجمهورية، إذ المعروف أن الرئيس بوتفليقة لم يرزق بأبناء.

والثاني فخامة الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي كان قد نجح في قيادة انقلاب عسكري على الحكومة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء المنتخب في تلك الفترة الصادق المهدي، في العام 1989، حتى أُطيح به قبل يومين على إثر الاحتجاجات الصاخبة التي عصفت بالسودان طوال الأشهر الماضية، والتي كانت تطالب باستقالته وتنحيته. ويعتبر البشير أول رئيس دولة يتم ملاحقته دوليا لاتهامه، من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور.

وفي ظاهرة غريبة وفريدة تستحق الدراسة والتحليل، فإن رؤساء الجمهوريات العرب كافة، ماعدا الرئيس السوداني الأسبق المشير عبدالرحمن سوار الذهب، ظلوا في مراكزهم وتشبثوا وتمسكوا بمقاعدهم وبكراسي السلطة إلى أن أزيحوا منها بالقوة، أو اغتيلوا، أو بعد أن يتفضل الموت باختطافهم، والأدهى من ذلك، فإن جميعهم عملوا وجاهدوا، بكل طاقاتهم وبكل الوسائل والأساليب والحيل، لأن يضمنوا ويبقوا في مراكزهم لأجل غير مسمى ولأطول مدة ممكنة، وسعوا إلى توريث كراسي الحكم لأبنائهم، ونجح واحد منهم في تحقيق ذلك، ولهذا الغرض، فإنهم حاولوا أن يستنبطوا نظامًا جديدًا هجينًا للحكم يتكون من خليط غريب شاذ يمكن تسميته بنظام “الجمهوريات العربية الملكية الوراثية”.

ولنقف عند بعض الأمثلة والمحطات:

الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يبرز مثالا لامعا ورائدا ناجحا في هذا المضمار، فقد استولى على السلطة في انقلاب عسكري في العام 1971، وظل متمسكًا بها لمدة 29 عامًا حتى وفاته، كما أنه نجح في ضمان توريث الحكم لابنه بشار بعد أن تم تعديل الدستور السوري لتخفيض السن القانوني لتولي السلطة، وبالفعل فقد نُصب بشار الأسد رئيسًا في العام 2000م، وهو لا يزال متربعًا على عرش السلطة على الرغم من الحرب الطاحنة التي شهدتها سوريا، والتي دامت 8 سنوات، وبذلك فإن راية “جمهورية آل الأسد الوراثية” ظلت خفاقة على رؤوس السوريين طوال الـ 48 عامًا الماضية، ولا تزال.

الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تسلم سدة الحكم في مصر بعد انقلاب 23 يوليو 1952، وظل في السلطة حتى وفاته في العام 1970، تبعه الرئيس محمد أنور السادات الذي حكم مصر لمدة 11 عامًا إلى أن تم اغتياله في “حادث المنصة” في العام 1981، ثم تولى السلطة من بعده الرئيس محمد حسني مبارك الذي ظل رئيسًا لمصر لمدة 30 عامًا إلى أن أُطيح به على إثر اندلاع احتجاجات أو ثورة يناير 2011. وحسب تصنيف “فورين بوليسي” الأميركية، فإن الرئيس مبارك يحتل المركز الخامس عشر في “قائمة فورين بوليسي لأسوأ السيئين” للعام 2010، حيث اعتبرته “حاكم مطلق مستبد يعاني داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر في منصبه، وهو يشك حتى في ظله ويحكم البلاد منذ 30 عاما بقانون الطوارئ لإخماد أي نشاط للمعارضة، وكان يجهز ابنه جمال لخلافته”.

أما أيقونة هذا الموضوع، فهو “ملك ملوك إفريقيا” الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي الذي استولى على السلطة في ليبيا بعد انقلاب عسكري قاده في العام 1969، وظل جاثمًا على خناق الشعب الليبي والأمة العربية لمدة 42 عامًا، وكان قد هيأ ابنه سيف الإسلام لخلافته لولا انتفاضة الشعب الليبي التي أطاحت به في العام 2011 وأدت إلى مقتله بصورة مزرية بشعة.

وعلى الرغم من أن عهده بدأ نائبا لرئيس الجمهورية العراقية في العام 1975، إلا أن الرئيس صدام حسين كان الحاكم الفعلي للعراق منذ ذلك الوقت حتى الإطاحة به على يد القوات الأميركية عندما اجتاحت العراق في العام 2003، وبعدها بـ 3 سنوات تم إعدامه شنقًا. ولسنوات عديدة، قبل الإطاحة به، كان ابنه عدي يعتبر ولي عهده على الرغم من حدة طبعه وحماقته.

وقد أمضى الرئيس المجاهد الحبيب بورقيبة أكثر من 30 سنة في حكم تونس منذ استقلالها في العام 1954، وتقول رواية أخرى، إن الرئيس السنغالي الأديب الشاعر ليوبولد سنغور، بعد أن تنازل عن الرئاسة في العام 1980 قام بزيارة خاصة إلى تونس والتقى صديقه الرئيس بورقيبة، وقال له ناصحًا: “لماذا لا تتنحى عن الحكم مادمت الآن في قمة مجدك؟”، فغضب بورقيبة ورد عليه بحدة قائلًا بالفرنسية ما معناه “لو كنت عبدًا أسود مثلك لفعلت”، وأمره بالانصراف، ثم تمتم بهذا البيت المشهور للمتنبي “مـا كُنـتُ أَحسَبُنـي أَحيـا إلـى زَمَـنٍ... يُسـيء بـي فيـه عَبـد وَهْـوَ مَحمـودُ”، هنا أيضًا العهدة على الراوي، مع أن المعروف عن بورقيبة حبه وولعه بالشعر العربي.

زين العابدين بن علي وزير داخلية بورقيبة قام بانقلاب على سيده وأطاح به واستولى على الحكم في العام 1987، وكغيره من الرؤساء العرب الذين يعاد انتخابهم بالإجماع أو بغالبية 99.9 % أو في أسوأ الأحوال بغالبية ساحقة في كل انتخابات يخوضونها، فقد أعيد انتخاب زين العابدين أكثر من مرة وظل ماسكًا بناصية الحكم بقبضة من حديد لمدة تزيد عن 23 عامًا حتى العام 2011 عندما ثار الشعب التونسي ضده وأطاح به في انتفاضة أيقظها الشاب محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه؛ تعبيرا عن غضبه على بطالته ومصادرة عربته التي يبيع عليها ومن ثم قيام شرطية بصفعه أمام الملأ، وكانت انتفاضة الشعب التونسي الشرارة التي أضرمت نيران ما سمي بالربيع العربي.

اضطر بن علي، على عجل، إلى التنحي عن السلطة والهروب هو وأسرته خلسة من البلاد تاركًا وراءه كمية هائلة من المجوهرات والمقتنيات الثمينة وخزائن مملوءة بملايين الدولارات لم يتسع الوقت أو المجال لحملها كلها معه.

ومعروفة للجميع قصة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي حكم اليمن لمدة 34 سنة، إلى أن تم خلعه بصعوبة في العام 2012، وخلال فترة حكمه لليمن الفقير كان قد اختلس، كغيره من الرؤساء العرب، المليارات من الدولارات التي أنفق جزءا كبيرا منها لاحقًا في مؤامرات ومغامرات عسكرية فاشلة كلفته حياته، وكانت تهدف إلى استعادته للسلطة، والتي أدت بدورها إلى انزلاق اليمن في حرب طاحنة لا تزال رحاها تدور حتى الآن.

وإذا عدنا إلى الرئيس الدكتاتور الجنرال فرانكو، فسنجد أن ما يقارب من 200 ألف إلى 500 ألف إسباني قتلوا في عهده وبسبب مواقفه أو تصرفاته، كما سنجد أنه أوفى بوعده وأعاد الملكية الدستورية إلى بلاده عندما عين، قبل وفاته، الأمير خوان كارلوس في العام 1969 خليفة له ليتولى الحكم من بعده، فأسس بذلك نظاما ملكيا ديمقراطيا مستقرا، ولم يحاول أن يورث السلطة إلى أي من أقربائه أو اتباعه، كما أنه أجرى إصلاحات اقتصادية ووضع بلاده إسبانيا على عتبات التطور والنمو الاقتصادي. أما رؤساء الجمهوريات العربية المذكورون، فإن عدد من ماتوا وقتلوا في عهدهم وبسببهم يفوق أضعاف المرات ما حققه واقترفه الدكتاتور فرانكو، وقد تربع بعضهم على كراسي الحكم لمدد تتساوى أو تتخطى وتزيد عن المدة التي قضاها فرانكو في الحكم، كما أن فرانكو لا يستطيع أن يضاهي أي منهم في مدى تفشي وانتشار الفساد، وفي حجم النهب والاختلاس والتبذير والهدر المالي والتراجع والانهيار الاقتصادي الذي ألحقوه ببلدانهم.

إن الهدف من هذه الوقفة هو المساهمة المتواضعة في رصد الظواهر والتصرفات التي قادتنا وتقودنا إلى هاوية التخلف والانكسار، ومنها ظاهرة أو أنظمة رؤساء الجمهوريات العرب المخلدون، دون محاولة منا لتنزيه الأنظمة الملكية العربية من التجاوزات والأخطاء التي نتمنى أن يوفقهم الله إلى إصلاحها وتجاوزها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية