العدد 3722
الأحد 23 ديسمبر 2018
banner
كبوة أم انهيار حضاري؟
الأحد 23 ديسمبر 2018

قال شاعر مصر المفوّه هاشم الرفاعي المتوفى في العام 1959:

وما فَتِئ الزمانُ يدور حتى مضى بالمجدِ قومٌ آخرونَا

وأصبح لا يُرى في الركبِ قومي وقد كانوا أئمته سنينَا!

وآلمني وآلم كل حُرٍّ سؤال الدهر: أين المسلمونَ؟

تذكرت هذه الأبيات وأنا أقرأ بعض الدراسات والتقارير عن آخر ابتكارات وإنجازات الحضارة الغربية المارقة وعلمائها الكفرة في مجال واحد فقط، وأقول وأكرر: مجال واحد فقط، وهو مجال تطوير وتوسيع نطاق استخدام تقنية المعلومات في الحقل الطبي، التي تم تحقيقها مؤخرًا دون أي مساهمة من العلماء العرب والمسلمين البررة.

فبعد أن تمكن علماء الحضارة الغربية من ابتكار تقنية المعلومات وتفجير إمكاناتها وطاقاتها، قاموا بتسخيرها بمخرجاتها ومنتجاتها لخدمة البشرية وإسعادها ولتوفير احتياجات الناس وتسيير أمورهم والارتقاء بأدائهم كمًا ونوعًا ودقة، حتى أصبحت تقنية المعلومات الآن من أهم مكونات عصب الحياة والمحرك للأنشطة كافة، وبفضلها سَهُلَتْ عملية الاتصال والتواصل بين الناس وتوسعت قطاعات الاقتصاد كافة وارتفعت الإنتاجية وتشعبت آفاق العلوم والفنون وغيرها.

وكان للطب نصيب وافر من إسهامات تقنية المعلومات ومخرجاتها التي ساهمت في توفير أفضل الخدمات الطبية للحفاظ على صحة الناس وسلامتهم وإطالة أعمارهم. وفي هذا المجال الحيوي المرتبط بشكل أوثق بحياة البشر، وإضافة إلى النجاحات التي تم تحقيقها، فإن تقنية المعلومات تتجه الآن إلى تحويل الأدوية والعلاجات إلى علوم الحاسب الآلي عن طريق تكثيف وتوسيع مجالات استعمال شرائح الكومبيوتر مع تصغير حجمها وزيادة طاقتها الاستيعابية في الوقت نفسه.

وكأمثلة على ذلك، وبإيجاز واختصار شديدين، فقد تم بالفعل اختراع كبسولات بحجم حبة الأسبرين، يبتلعها المريض وبداخلها شريحة بالغة الصغر والدقة تحتوي على كاميرا تقوم بتصوير حي لحالة الجسم والأعضاء من الداخل وبثها مباشرة إلى أجهزة استقبال أمام الطبيب.

وأصبح بإمكان أي واحد منا الآن قياس معدل السكر في دَمِهِ بالآيفون.

وباستخدام تقنية المعلومات سيتمكن الطب قريبًا من التصدي لمرض السرطان الفتاك والقضاء عليه، ففي حالة الإصابة بالمرض سيتم إدخال شظايا أو molecules جذعية جنينية يتم توجيهها عن بعد أو من خارج الجسم بحيث تقوم باستشعار ومهاجمة الخلايا السرطانية داخل الجسم والقضاء عليها واحدة تلو الأخرى.

وللحماية والوقاية من السرطان قبل الإصابة به سيتم تجهيز المراحيض بشريحة صغيرة جدًا فيها قوة وإمكانية هائلة ستقوم بالتقاط وتحليل جزيئات الحمض النووي DNA وستخبرك إن كنت مهددًا بالإصابة بمرض السرطان بعد عشر أو 20 سنة وعليك اتخاذ الإجراءات الوقائية لتجنب الإصابة؛ لأن علماء الغرب اكتشفوا أن نمو الخلايا السرطانية في الجسم يتم بطريقة بطيئة جدًا في البداية قد يحتاج إلى 20 سنة ليبلغ مرحلة الخطورة عندما يتحول إلى ورم قاتل. وبفضل DNA Chips يمكن اكتشاف المرض والقضاء عليه سنوات قبل أن يبدأ في التشكل والنمو والانتشار.

وسيتمكن العلماء قريبًا أيضًا من وضع مرايا في الحمام ملصق بها شريحة DNA Chip يمكنها التقاط وتحليل جزيئات الحمض النووي، وعندما تنفخ عليها فإنك ستعلم إن كنت مصاب بسرطان الرئة في وقت مبكر.

كل هذا مجرد غيض من فيض، مجرد أمثلة قليلة من بحر متلاطم من الابتكارات والإنجازات التي يقف العلماء العرب والمسلمين بعيدًا عنها بمسافات شاسعة ولم يساهموا فيها ولا بقدر أنملة.

وإذا عدنا إلى ما قاله الشاعر هاشم الرفاعي، لوجدنا بالفعل أن الأمر جلل يسبب لنا جميعًا الألم والحيرة والحسرة والمرارة، ولا يترك لنا أي مجال لإنكار أننا أصبحنا نقبع الآن في قاع أزمة فكرية وحضارية أخرجتنا من مجرى التاريخ وقطعت صلتنا بالحضارة وجعلتنا منزوين ومعزولين عن حراكها، وأفقدتنا حتى المقدرة على الانسجام مع واقع ومعطيات النظام الحضاري الحديث، لقد أصبحنا مستهلكين ومستفيدين من بعض منتجاتها في أحسن الأحوال دون المساهمة فيها.

إننا عندما نتحدث ونجتر أمجاد ماضينا وننظر دائمًا إلى الوراء إنما نحاول الهروب من الواقع المزري الذي نعيشه ونسعى إلى تبرير فشلنا وعجزنا عن اللحاق بركب الحضارة والمساهمة في الفعل الحضاري، لذلك فإننا نستمتع بالتغني والالتصاق والتعلق بالماضي، إنها عملية هروب من الواقع ومحاولة أيضًا للاستنجاد بالماضي واستحضاره للتخفي والتستر وراءه، ولذلك ربما أصبحنا نحن الأمة الوحيدة التي تنظر دائمًا إلى الوراء وتبكي على ماضيها وتؤمن بأنه أفضل من حاضرها ومن مستقبلها.

لقد خاضت في هذه الأمور وأفاضت بحوث ودراسات عديدة وتوصلت إلى قراءات واستنتاجات نقدية قيمة معظمها تؤكد أننا لن نستطيع الخروج من هذا المأزق والنهوض والإسهام في صنع الحضارة أو الاندماج فيها إلا إذا تمكنا من الالتفات إلى الحاضر والمستقبل، والانعتاق من الماضي وتجاوزه والتخلي عن أثقاله والتخلص من أوهامه وأغلاله واستشراق آفاق المستقبل بكل ثقة وتفاؤل.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية