العدد 3577
الثلاثاء 31 يوليو 2018
banner
في مجلس الرئيس تتجلى المواقف
الثلاثاء 31 يوليو 2018

عرفت صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان، كأي مواطن من جيلي، ومنذ أن بدأ نُضجي وإدراكي في التكوُّن، وأنا أرى هذا الربان وهو يقود سفينة البحرين، بكل حنكة واقتدار، نحو النمو والتطور ليرسخ مكانتها في المنطقة كمنارة إشعاع فكري وحضاري ترشدنا إلى بر الأمان وسط رياح التحديات العاتية.

رأيت بصمات خليفة بن سلمان جلية وحضوره بارزًا في كل مناحي حياتنا منذ تلك الفترة.

وقد شاءت الأقدار لاحقًا أن أقترب من سموه وأتعرّف على هذه الشخصية الكاريزماتية الجاذبة النافذة من خلال عضويتي في مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين، وكذلك مجلس الشورى في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

ثم أكرمني الله العزيز القدير بشرف العمل تحت إدارة خليفة بن سلمان وقيادته الحكيمة وزيرًا بمجلس الوزراء لمدة عشر سنوات متصلة انتهت في العام 2005م لتبدأ بعدها فورًا مرحلة أخرى ارتقت بعلاقتي الشخصية بسموه إلى مستويات متميزة، وأتاحت لي فرص اللقاء به بشكل مستمر والتحدث والحوار معه والمشاركة في الكثير من اجتماعاته وحضور مجلسه الموقر ومرافقته في معظم أسفاره.

في هذه المرحلة من العلاقة تمكنت من الاقتراب أكثر من الأمير خليفة والتعرف على هذا القائد المقدام بشكل أوضح، ونتيجة لذلك، وعلى مدى كل هذه المراحل والسنوات أصبحت ذاكرتي متخمة بكمٍّ هائل من تفاصيل الكثير من الأحداث والإنجازات والمواقف التي سطّرها خليفة بن سلمان التي عكست غيضًا من فيض خصائصه القيادية الفذة، ومن بينها الرؤية الثاقبة والذاكرة الخارقة والتخطيط والالتزام والدقة والطاقة على العمل والعطاء والاستعداد التام لمواجهة التحديات والقدرة الفائقة على قراءة المستقبل وعلى الاتصال والتواصل والنفاذ إلى صميم وجدان من يلقاهم.

في مجلس الرئيس خليفة بن سلمان تتجلى بوضوح تلك الخصال والمناقب والمواقف، ومن مجلسه وفي هذه المساحة المحدودة سأكتفي بالوقوف على عجالة أمام موقفين حُفِرتْ تفاصيلهما في صفحات التاريخ، وتتردد أصداؤهما دائمًا، وإلى الآن، في مجلس الرئيس.

الموقف الأول، كان في جنيف، وكانت البحرين وعدد من أمارات الخليج العربي تربطها معاهدات مع بريطانيا العظمى تتولى بموجبها الأخيرة شؤون الخارجية والدفاع لهذه الإمارات. وبالنسبة إلى لبحرين فقد كانت بريطانيا توفر الحماية اللازمة لمواجهة أطماع وتهديدات الجارة القوية إيران التي كانت تدعي تبعية البحرين لها.

وفي العام 1968م قررت بريطانيا إلغاء تلك المعاهدات والانسحاب من منطقة الخليج العربي وسحب غطائها الدفاعي وإنهاء وجودها العسكري فيها. عندها كشّرت إيران عن أنياب أطماعها وهدّدت بالاستيلاء على البحرين واحتلالها وضمها إلى سيادتها.

لم يكن لدى البحرين وقتها أية قوة أو إمكانيات عسكرية تمكنها من الدفاع عن نفسها، وأكثر ما كان لديها مجموعة من رجال الشرطة والحراسة لا يتعدى عددها الثلاثمائة فرد.

يا له من منعطف مخيف وظرف عصيب، ويا له من شعور قاتل خانق يدعو إلى اليأس والقلق عندما وجد شعب البحرين وقيادته أن مصير وطنهم ووجوده وهويته مهددة من أكبر وأقوى دول المنطقة.

وفي جنيف عرض مندوب الشاه وحكومته على خليفة بن سلمان القبول بضم البحرين إلى إيران مقابل ضمان بقاء آل خليفة على سدة الحكم فيها، أو الزحف والاستيلاء عليها بالقوة.

هنا زأر خليفة بن سلمان في جنيف في وجه مندوب الشاه وحكومته قائلاً: “لا، لا، لن يكون ذلك، إن الحُكْم لا يهمنا بقدر ما تهمنا سلامة وطننا وكرامة شعبنا. إننا لا نملك الإمكانيات العسكرية لصدكم لكننا سنواجهكم وسندافع عن وطننا بأيدينا وبأرواحنا متسلحين بالإيمان والثقة بالله ولن تستطيعوا أن تضعوا أقدامكم على ترابه إلا فوق جثتي وجثث شعبي”.

هذا ما قاله خليفة بن سلمان بكل ثقة وصلابة، وهذا ما جعل شاه إيران وحكومته يدركون أن هذا القائد الكبير يستحق الاحترام، وأنه، من دون شك، يستمد قوته وصلابته وثقته من حبه لوطنه ومن شعبه الوفي، فأدرك الإيرانيون أن القوة لن تجدي نفعًا في مواجهة هذا الرجل الصلب الواثق من نفسه ومن عدالة قضيته؛ ليقرّر شاه إيران وحكومته التخلي عن أسلوب التهديد بالقوة، واللجوء إلى الوسائل السلمية لحل المشكلة عن طريق الأمم المتحدة، ثم قبلوا بإجراء استفتاء لشعب البحرين كانوا هم أدرى بنتائجه المتوقعة.

وهذا ما حصل بالفعل عندما وقف شعب البحرين بكل أطيافه وطوائفه من دون استثناء، وبكل الولاء والإيمان خلف قيادة آل خليفة الرشيدة، فظلت بذلك البحرين دولة عربية مستقلة ذات سيادة، لتضاف هذه الملحمة البطولية إلى سجل طويل وناصع من الانتصارات والإنجازات التي حققها خليفة بن سلمان التي رسخت مكانته العظيمة في ضمائر ووجدان كل البحرينيين، ورفعته أمام أنظار العالم كرجل سلام حافظ على كيان وسيادة بلاده وحقق استقلالها من دون إراقة نقطة دم واحدة.

الموقف الثاني حصل في الدوحة، عاصمة دولة قطر، عندما اجتمع قادة دول مجلس التعاون لمناقشة التطورات الناجمة عن اجتياح القوات المسلحة العراقية لحدود دولة الكويت واحتلالها وإعلان ضمها تحت السيادة العراقية في العام 1990م.

كان خليفة بن سلمان حاضرًا ومشاركًا في ذلك الاجتماع المصيري، مقدرًا لثقل المسؤولية الملقاة على كاهله وكاهل أشقائه قادة دول المجلس، ومدركًا لهول الأخطار المحدقة بالمنطقة نتيجة للزلزال الذي أحدثه العدوان العراقي على دولة الكويت الشقيقة.

كانت تلك الأيام مفعمة بالقلق والتوتر والحيرة. في ذلك الاجتماع أثير موضوع الخلاف مع قطر حول جزر حوار الواقعة تحت السيادة البحرينية التي تطالب قطر بضمها إليها.

وفي إطار المساعي المبذولة لحل هذا الخلاف عُرِض على خليفة بن سلمان التنازل عن السيادة على جزر حوار مقابل مبالغ ضخمة ستدفع لحكومة البحرين لتمكينها من تحقيق وتنفيذ برامجها التنموية الطموحة.

وعلى الرغم من حاجة البحرين الملحة للموارد المالية اللازمة لتنفيذ تلك البرامج، إلا أن خليفة بن سلمان، وبكل التفهم والتقدير، رفض العرض قائلاً بصوته الرخيم الرزين: “إن تراب الوطن لا يباع بأي ثمن”، وقبل برفع الخلاف إلى محكمة العدل الدولية التي حكمت في النهاية بأحقية وشرعية سيادة البحرين على جزر حوار.

وبذلك، ومرة أخرى، صان خليفة بن سلمان سيادة البحرين على كل شبر من أراضيها وحفظ حقها وحافظ على علاقات الأخوة والمودة بين مملكة البحرين وشقيقتها دولة قطر وباقي دول مجلس التعاون.

لقد اكتفيت باستنهاض هذين الموقفين فقط من بين المئات من المواقف الأصيلة والشجاعة لخليفة بن سلمان. اخترتهما لأنهما يضعان هذا الرجل في موقع متقدم بين قادة العالم الذين ربطوا مصيرهم بمصير وكيان شعوبهم وأوطانهم، والذين صانوا كرامة شعوبهم وحافظوا على كيان وسيادة وهوية أوطانهم ولم يفرطوا في ذرة من ترابه تحت أي ظرف من الظروف.

وأختم كلماتي بالتعبير عن جلّ فخري واعتزازي وسعادتي بكل لحظة أقضيها بالقرب من هذا القائد الملهم، لأنهل من نبع حكمته الدافق وأكون شاهدًا على مواقف عظيمة نتعلم منها ما ينفعنا في حياتنا، مواقف ستبقى راسخة في ذاكرة الوطن وتهتدي بها الأجيال القادمة.

مقال نشره عبدالله الحواج بكتابه “مجلس الرئيس“ وتعيد “البلاد” نشره اليوم، ويمثل مشاركة رئيس مجلس إدارة  صحيفة البلاد عبدالنبي الشعلة في هذا الإصدار القيم الذي يتحدث عن مجلس رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .