العدد 3575
الأحد 29 يوليو 2018
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
المدني الذي لم يمتلك خاتم سليمان
الأحد 29 يوليو 2018

كان حاضرا في العراق عند ابتسام فوهات براكينها، يتلمس الحزن، ويطبطب على الألم، ويربت على كتف التاريخ. كان يحلم أن يكون التاريخ وسيما كوسامة محياه، وأنيقا كأناقة هندامه الوارث من تاريخ الأجداد منجم العلم وبساتين الطيبة وقداسة القربان.

كان “إخباريا” في منطلقاته الفكرية، لكن الله منحه “تورميمتر العباقرة”، مرة في قياس الأفكار، ومرة أخرى في قياس اتجاهات الرياح.

عاش منذ طفولته متنقلا في حديقة “الحدائق الناظرة” للشيخ يوسف البحراني رغم الشوك البري الذي لازم رجليه مرارًا في علاقة أبدية كما هي تراجيديا العظماء الذين كتب عليهم أن يعيش بين أسنان التمساح والعبث بفوهات البراكين.

باكرا حجز له مقعدا للدراسة في العراق، وهو ابن سلالة علمية مدنية، من آل المدني وآل حرز آباءً وجدودا، أحجارا كريمة يوزعها الزمن دلاءً تقطر تقوى كلما وقفت سفينة المساكين تستدعي غيما ومُزنا. وقاده القدر لأن يقترب من معرفة تفاصيل ملابسات انهيار القلعة الملكية للنظام الهاشمي الملكي في العراق في سنة 1958 ومذبحة قصر الرحاب، التي ستبقى عارا عربيا بامتياز.

هذه اللوحة التراجيدية مكنته من رؤية أخطاء كارثية الرئيس عبدالكريم قاسم، والمنهج الشيوعي إذا تطرف، وجمالية الملك فيصل الثاني وإن أخطأ، مشهد الرئيس قاسم، وهو يصبغها باللون الأحمر، وإعادة الجرح الكربلائي في الولد بعد الآباء.

هو المدني، أيقظ فيه الزلزال، ومذبحة القصر الهاشمي حاسة سياسية سادسة في اكتشاف خطورة الحزبية الضيقة، وإصابته بحساسية من أي شعار ثوري يأتي من خارج الحدود، مهما بدا ملائكيا، وتبتسم على جنباته شفاه الضمير.

ذاك هو الشيخ، قناص غضب الزلزال، المرحوم الشيخ سليمان المدني.

عرفته وأنا طفل صغير، في منطقة جدحفص. كنا في كل عيد نرتدي ثيابا جديدة منتشين بابتسامة العيد وأرجوحته المشتهاة. وكان العيد لا يكتمل كعرف محلى، حتى نقوم بتكحيل عيوننا بالسلام على الشيخ سليمان المدني. نجلس صغارا في مجلسه، ونقرأ أفكاره، وطلته النورانية، وعفويته وابتسامته وغربته في فهم الناس له.

المدني في السياسة كان جريئا في أفكاره المدببة، وكان يخطب يوم الجمعة بألف جرس إنذار وإنذار من الانزلاق من قطعة عسل سائلة أمام حفرة احتراق أو حرف جار.

وكان يحذر من استبدال ثقافة “الشهادة الجامعية “ إلى “شهادة وفاة”. رجل كان يرسم الخارطة بريشة إلاهية، ولم يقفز من سفينة غارقة، بل كان تحت الماء يحاول “ترقيع” السفينة ولو بقطع من قلبه، ولو قاده ذلك إلى الغرق وحده.

تعبت الأجراس، ولم يتعب، تمزق ثوبه الجميل إلا عيناه الخضراوتان بقيتا تتدليان ثمارا وحدائق. ولأنه إنسان، لابد أن يشعر بألم جرح، وبغربة الانتماء والجغرافيا.

طعنه الدهر بخنجر، مرة في قتل أخيه الشيخ والأستاذ الشهيد عبدالله المدني، الذي كان من ضمن الأيقونات، والجواهر الثمينة التي جادت بها منطقة جدحفص والبحرين، والمرة الأخرى هو غربته في الإصرار على التواصل مع السلطة، وتأصيل العلاقة الوطنية حفاظا على الجميع، لتكون البحرين هي “ليلى” غزل عين كل العشاق.

انتصرت “الثورة الإيرانية”، وفي ضمن تدفق الشلال الجماهير مع ارتفاع منسوب دخان الهياج الجماهيري كان المدني ساكنا، ويمتلك كبرياء تحليل خاتمة الثورات، ودائم الحذر من بريقها ولمعانها، ليقينه كما هو التاريخ، قد تبدأ الثورات واعدة لكنها تنتهي بأكل أطفالها.

كان المدني يقفز بين الأحداث من حد خنجر إلى حد سكين، برجل حافية، وبقلب مطمئن، وعقل يقرأ التاريخ كما هو هيجل، نبوءاته تتحقق في كل منعطف.

كان يصر على الشيعة بأن يدخلوا الدولة، يباركوا الإنجازات، ويصلحوا الأخطاء. كثير منهم استوعبوا مدرسته، ومازالوا، وبعضهم مازال مترددا، وبعض - وهم قلة - سيفهمون ذات يوم أن الدولة هي الدولة لابد من تقويتها بدعمها ومدحها ونصحها ونقدها بكل وضوح أيضا وبالأطر القانونية والدستور.

أطلق على المدني رصاص التشويه لكسر بوصلة تفكيره المتجهة نحو ساحل السلطة، ومصلحة الوطن، في بحر هائج سقطت فيه الكثير من أسماك الزينة، واتهم بالارستقراطية في حين أن المدني رحل، ولم يكن ضمن تركته سوى تاريخ رافع قبعته احتراما لشيخ المواقف الصارمة، ونذر بسيط من متاع دنيا ظلم فيها وظلمه الدهر فيما زعم أنه أخذ منها.

ليس كثيرا على المدني أن يكون تمثالا، ننحت إليه من الأعين تمثالا. أبا محمد طاهر، نم قرير العين، صحيح أنك لم تكن تمتلك خاتم سليمان لكن يكفي أن تكون سليم الأمان يا سليمان. مدرستك عائدة، وهو بحرك يكثر فيه السباحون، ويدعون لك على شواطئه. صحيح أن التاريخ يكتبه المنتصرون، ولكن الأصح عندما يكتب المنتصرون التاريخ، وأنت واحد منهم!

دون تشفير

جدحفص لها تاريخ في الدفاع عن العلاقة المتوازنة والوسطية مع السلطة ومازالت، إلا أن حصتها من الكعكة الرسمية من بنية تحتية ومراكز صحية، وحدائق ووظائف لخريجيها تكاد تكون معدومة ومازالت. فأين مكافأة السلطة لتاريخ المدني ولجدحفص وتاريخها؟ مصلى الجمعة الذي كان يخطب فيه العلامة المدني صودر من قبل إدارة الأوقاف الجعفرية، وجعل مخازن، وحكمت المحكمة لصالح عودة الصلاة.

فنتمنى من الدولة أن تتدخل في إرجاعه، فلا يمكن أن يكون مصلى المدني مصادرا من قبل الجعفرية. والمرء يكرم في ولده ومنطقته ومحبيه. السلطة كريمة، وأهل جدحفص يستحقون الكرم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية