العدد 3572
الخميس 26 يوليو 2018
banner
زمان عادّي “الطعام” (2)
الخميس 26 يوليو 2018

انتهينا الاثنين الماضي إلى أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ليس عيباً، ولكن ربما العيب، خصوصاً في هذه المنطقة من العالم، بما تحمله من خصوصية ثقافية، ونسق اجتماعي يتبدّل، ولكنه يظل متمتعاً بما له من حدود وبواعث، أن يسرف المرء (والمرأة) في التقاط كل دقائق حياته، بعامّها وخاصّها، وعرضها على الملأ، وكذلك التعبير المنفلت الذي يؤخذ عليه في أوقات لاحقة، ويعتبر وثيقة إدانة.

واستكمالاً للحديث نفسه، فإن الظاهرة الثانية التي استلفتتني هي: البذاءة. كلمة واحدة تحمل في طيّاتها الكثير من المعاني والإشارات الواضحة والخفية، كلمة واحدة تحمل المسكوت عنه والمختبئ عن سطح التعاطي الاجتماعي، فصار يتسلل عن طريق التراسل الفوري، متمثلاً في التسجيلات الصوتية لأناس مجهولين، يتلفظون بأقذع الألفاظ وأكثرها انكشافاً من دون مواربة أو تورية، وفيها نوع لا يخفى من “التلذذ” بهكذا أداء عالي الابتذال أمام الملأ، ولكن من وراء ستار المقطع الصوتي الذي لا يبيّن من يقف وراءه، فالأصوات تتشابه إلى حدٍّ كبير.

هذه التسجيلات الصوتية، تحيل أيضاً إلى فترة قاتمة معتمة من تاريخنا المعاصر حيث استفرغ البعض أسوأ ما في جعبته من سوء، وألفاظ قذرة، وأوصاف يغلب عليها طابع الخرافات والأساطير تجاه الأضداد، فصارت هذه الألفاظ المتخمة بالقذارة التي لا يتقبلها المجتمع أملاً في شحن المشحون أساساً من النفوس، وشيطنة الطرف الآخر، وتسقيطه أخلاقياً، لما للجانب الأخلاقي من مكانة عالية رفيعة في أحكامنا على الأشياء.

تسري في مجتمعنا لغتان: اللغة الرسمية التي نتواصل بها، والتي يقرّها المجتمع، ونتبادلها بشكل رسمي، وهي القائمة على التوازن اللفظي، والمكتنزة بالدعاء، والأمنيات الطيبة للآخرين، والكلام العبق الصادر عن أناس يتمتعون بتربية حسنة، ونشأوا في بيوتات راقية، وهم أصحاب “السنع”، واللغة الأخرى، التي يستخدمها الناس أنفسهم، ويتداولونها حين يكونون مع الخاصة من معارفهم، بل وخاصة الخاصة أحياناً، وتلك اللغة التي يقولها الناس حينما يتخففون من ثقل الرزانة ويكونون مع من لا يستحون أن يضعوا ثيابهم في وجودهم.

هذان الخطّان من اللغة معروفان، ومعمول بهما عالمياً ربما، لكن ظهور اللغة الخاصة (السفلى) على السطح بهذا النوع من الاستعراضية المربوطة بما راج في الفترة الأخيرة من تناول وتداول صور لشاشات الهواتف لمن يفكرون في ترشيح أنفسهم في مجلس النواب، حاملة صوراً وتصريحات، وفيديوهات وغيرها، يرى البعض أنها عامل إدانة، وتسقط عنهم ورقة التوت أمام أهالي دوائرهم، هذا الظهور ينبئ عن شكل جديد من التعامل مع المنافسين والخصوم يتجاوز البرنامج الانتخابي، أو نقد مواقف سياسية أو إدارية، وإنما يذهب إلى أحطِّ ما يمكن أن يؤثر سلباً في المترشح والناخب على السواء.

استخدام اللغة البذيئة في عرف المجتمع، يعبر عن عجز وتردٍّ في مواجهة الموقف أو الخصم، فلا مخرج إلا باستخدام هذه القنابل اللفظية لتجريح الأطراف الأخرى، لكن ما بالنا إذا كان بعض مطلقي هذه التسجيلات الدونية ليست لهم علاقة بالمنافسة السياسية، فهذا ربما ينمّ عن مرض تنتفخ أورامه تحت جلد المجتمع، ومن المهم الانتباه إليه.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .