+A
A-

سعيد سعيد طباره.. سيرة الحديد والأسماء

تُوضع الأسماءُ كي لا تضيعَ سيرةُ مُسمياتها، تاريخُ مَنْ أنشأها وأنجزَها وسَمّاها، كي لا يضيعَ عَملُها، فُعلُها وأثرُها في النّاس والأرض، رضى النّاسِ عنها، تغييرُها لنظرتهم للحياة، وتطويرُ إسهاماتهم فيها. وليس أظلمُ من تغييب الأسماء في تعليم الإنسان.

هكذا قدم الروائي والقاص حسين المحروس لتجربته في كتابة سيرة "مهندس التعليم الصناعي في البحرين" التربوي الراحل سعيد سعيد طباره، سارداً فصول الذاكرة وتفاصيل قصة مثقلة بالحضور، جامعاً ذكريات سيرة لا تتكرر، فالقصّة لديه "ليست وصفاً للحياة وإنّما الحياةُ نفسُها" على حد قوله.

آما المفكر والأديب والوزير الأسبق علي فخرو فسطر خلال حفل تدشين كتاب "سعيد سعيد طباره.. مهندس التعليم الصناعي"، الذي أقيم اخيرا في مركز عيسى الثقافي في العاصمة المنامة ثلاث صفات تُميّز الأستاذ طباره؛ الأولى أنّه رجل دائم التقدّم والمبادرة بمقترحات جديدة وعملية، "فهو ليس رجل أحلام، بقدر ما هو رجل واقع".

يقول الدكتور علي فخرو الذي عمل مع طباره لنحو عقد من الزمن: "في يوم وجدت باحثا تربوياً  تقدّم بمشروع لتطوير التعليم الصناعي الثانوي في لبنان، ونقله من مشروع مهني إلى مشروع فنّي، يقضي فيه الطالب أربع سنوات بدلا من ثلاث مع رفع مستوى مواد المناهج وزيارة ساعات التدريب العملي، لكن مشروعه لسبب ما رفض!، قلت هذا الذي رُفض في لبنان سوف نحققه هنا في البحرين، كلّمت الأستاذ سعيد طبّاره وآخرين حول الموضوع، فقالوا لي:  سوف نحقق ذلك في البحرين، ونضع الخطط المناسبة انطلاقاً منها لتخريج فنيين وليس مهنيين".

يوصل فخرو السرد: "الصفة الثانيّة  هو الرجل المتسامح مع فكر الآخرين، المحاور بلا عصبية  ولا تعنّت، ولا ضيق في الأفق، قابل للأفكار الأخرى، آما الصفة الثالثة فقد بقيت في التعليم ثلاث عشرة سنة لم أسمع فيها منْ يشتكي من الأستاذ سعيد طبّاره، أو يشير إلى غير إنصافه لموظفيه؛ فعندما تكون وزيراً تأتيك شكاوى حول ميل الأشخاص إلى جهة ما أو إلى شخوص ما، لكن ذلك لم يحدث".

تعود ذاكرة تلميذه الدكتور إبراهيم الهاشمي إلى العام 1954 حيث مدرسة المنامة الصناعية، كان وقتها فتاً يافعاً في الابتدائية، وكان الأستاذ طباره معلماً حكيماً يصطاد الطلبة المتفوقين لأنه يؤمن انهم صناع المستقبل. يقول الهاشمي: "رأيت في الأستاذ رجل مهيب عطوف، قائد حقيقي، لا يجيد الجلوس في مكتبه، تعلمت منه النظام والدقة والاعتناء والطموح العالي، وكان أكثر ما يميزه الحماس اللامحدود لاستقطاب المتفوقين لابتعاثهم الى المملكة المتحدة يكملوا مسيرة الارتقاء بالتعليم المهني الصناعي ويتجاوزا بالعلم الصعوبات والتحديات آنذاك".

يقول الهاشمي، الرئيس الأسبق لجامعة البحرين وقبلها عميد كلية الخليج للتكنلوجيا: "في كل مره التقيه أرى في عينيه ذلك الحلم؛ إدخال تغيير جذري ونوعي في مناهج التعليم لتواكب عجلة التطور المعرفي وتلبي التخصصات المطلوبة في سوق العمل، كان حلمه ان يكون للبحرين الريادة في التعليم بشكل عام والتعليم الصناعي بشمل خاص، وفي المحصلة فضله كبير لا ينسى، فهو محارب طيب القلب كريم السجايا، ذا مبادئ راسخة ثابتة لا تتلون، نهجه الحماس والمثابرة، ورحل تاركاً عصارة تجاربه العملية ليتجاوز بها تلاميذه العقبات والتحديات".

من جانبه، سرد أبن الراحل، الدكتور خالد طباره محطات ثرية بدأها بمولده وتسميته بسعيد على أبيه سعيد الذي أخذه البحر ذات يوم ولم يلفظه، فيقول: "ولد سعيد طباره في بيروت يتيماً بعدما غرق والده التاجر مع ثروته في عاصفة في البحر الأبيض المتوسط خلال عودته من عكا في إحدى رحلاته التجارية، وترك زوجته حاملا ترعى ستة أولاد؛ فسموه (سعيد) على اسم أبيه".

ويضيف: "جاء مشروع هذا الكتاب لإحساسنا أنّ مسيرة تاريخ حياة أبي وكفاحه التي أسس فيها أسرته وأسس التعليم الصناعي معاً وجاهد في ظروف صعبة في مطلع الحرب العالمية الثانية ومن ثم سنوات نهضة البحرين، تستحق ألا تضيع، لقد شارك طباره في بناء البحرين وتفاعل مع أهلها الذين أصبحوا أهله وأحبابه مع الوقت، وعمل مخلصاً للبحرين بكلّ طاقاته وسخر كل جهده لبناء منظومة تربوية خدمت البحرين في فترة بداية تأسيس صناعة البترول وما بعدها".

"نشأت وأخواتي الثلاث في "منزل الصناعة" الذي كان فوق ورشة النجارة في المدرسة" يقول طباره الابن، منزل يتكون من غرفتي نوم والبقية هي ملاحق المنزل، شرفة البيت الكبيرة كانت ملعبهم، وكانت غرف النوم والشرفة تطلان على ساحة المدرسة ومكتب والدهم، لذا كانوا على علم دائم بما يدور في المدرسة طوال الوقت!

يستمر في السرد: "كان الطلبة والمدرسون، وانا واخواتي نهاب والدي، فقد كان انسانا حازما، طموحا، جادا يحب العمل والاجتهاد، وكان عندما يغضب تصبح له نظرة ترتجف لها القلوب، ولكن في الوقت نفسه كان عادلا، محبا ورؤفا، يساعد الجميع ويريد للجميع الخير والتطور والرقي. أما نحن أولاده، فقد أغدق علينا برعايته ومحبته، درسنا في مدارس البحرين الرسمية رافعين رأسنا دوما لأننا أولاد "الاستاذ سعيد"، (ابوخالد)".

آما المحروس فراح يتذكر: "كنت أعرضُ عليه الأسماءَ التي مرّت به، فيسردُ عليّ شيئاً من سيرتها أو سيرته معها، وقد يبدأ الكلامَ بضحكة أو دهشة أو إشارة صوتية أعرفُ أنّ بعدها حكاية.. بشير أبو غزالة، حسن عسّاف، أحمد الشوملي، حسيب معضاد، يوسف مطر، رشيد الأعور، عبدالعزيز فضل، سيد سعيد سيد أحمد، وسيد سعيد سيد حسن، عبدالرحمن الكوهجي، مصطفي الجندي، حسين ميّان شيخ، عبد الله الشيخ، إبراهيم الهاشمي، حسن منفردي، وأخرون كثر هم جزء لا يتجزأ من سيرة طباره، فسيرةُ الإنسان مشيجٌ من الذين هم من حوله".

من بيروت إلى دمشق إلى بغداد إلى البحرين. من أسماءِ البيوت الأربعة إلى أسماء الأشخاص إلى محنة أسماء الآلات وجنسيات المعلمين، إلى أسماء المنهاج الجديدة في التعليم الصناعيّ، إلى أسماء الاختبارات الحديثة، إلى أسماء المبتعثين إلى لندن وغيرها، وصوت سعيد طباره الخافت هذه المرّة بوصيته الكبرى للمبتعثين:

- انظروا في مناهج التعليم عندهم، انظروا في معارفهم وانقلوها إلينا.

يستطرد المحروس قائلاً: "لما انتهينا من الأسماء صرتُ أعرضُ عليه الصور بالأسود والأبيض صورةً صورة، وهو يصفُ ما فيها ويسمّى ويسرد ويحكي".

من لقاءات كان يجريها المحروس مع الأستاذ طباره، إلى لقاءات عائلته الكريمة، ثمّ تلاميذه والذين عملوا معه في المدرسة، ثمّ البحثُ عن ابنة حارس المدرسة، إلى زملائه في الوزارة، إلى كلية البحرين الصناعية التي صارت كلية الخليج للتكنولوجيا، إلى جامعة البحرين، إلى معهد البحرين للتدريب، جمع خيوط القصة، إذ يقول: "بعد ذلك دخل الكتابُ في ورشة طويلة مع الدكتور خالد سعيد طباره، يبدو لي أنّ أحدنا أتعب الآخر، لكنّ الصحيح أنّ هذه السيرةُ أتعبتنا، وأجزم بعد كتابة عشر سير لنساء ورجال أنّ كتابة سيرة المنجزين متعبة".

أنتهى حفل التدشين، عُرض خلال الحفل فيلم لصور بالأبيض والأسود اختزلت تلك السيرة المليئة بالعطاء والبذل، وقع المحروس أحدث كتبه لعدد كبير من أهل ومحبي وتلاميذ طباره الأب، وظلت روح طباره ترفرف في المكان، تبتسم للوفاء والانجاز والمستقبل.