العدد 3415
الإثنين 19 فبراير 2018
banner
نريد صحافة مزعجة
الإثنين 19 فبراير 2018

في صبيحة اليوم الذي أعلنت فيه صحيفة “الوقت” توقّفها عن الصدور، وكان ذلك في يوم الصحافة العالمي، كنتُ في زيارة لأحد المسؤولين، فباغتني بنوع من الشماتة التي لم يجتهد لإخفائها، قائلاً: “أتمنى أن تحذو بقية الصحف حذوها”، ذلك أن هذا المسؤول سئم من كثرة الانتقادات والملاحقات الصحافية التي عليه أن يردّ عليها، ويبرر لها، فكلّما قلّت الأصوات الناقدة والمنتقدة، بات المسؤولون في هدوء نفسي لا يفسده “نقيق” الصحافة.

لماذا يبدي المسؤولون لدينا (أي في دولنا) انزعاجاً من الصحف والصحافة على الرغم من أنها أكثر أدباً، وأقل “خربشة”، أقصر مخالباً، وأنعم ضرباً من الصحف الأوروبية والأميركية؟ لماذا قبل 210 سنين تقريباً قال الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون: “لو تُــرك الأمر لي للاختيار ما بين حكومة بلا صحافة أو صحافة بلا حكومة، لاخترت الثانية بلا تردُّد”؟ لماذا لم تشكره الصحافة ولا الصحافيون، بل هاجموه في سنة حكمه السابعة، ما جعله يستشيط غضباً، وردّ لهم الهجوم بالهجوم؟ ولماذا، مع ذلك كله، لم يغيّر رأيه الأول، وظل يفضّل “صحافة بلا حكومة خير للدولة من حكومة بلا صحافة”، ولم يتمنَّ يوماً أن تزول الصحف في عهده حتى ينعم بالهدوء ويتفرغ لإدارة الحكم في بعض من سنوات التحدي بصفته أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة؟!

الأمر بكل سهولة وبساطة يكمن في الاحترافية التي تتمتع بها منظومة الصحافة لتقنع المجتمع أنها تتعاطى مع السلطات الثلاث بشيء من العدالة، وأنها لن تنساق وراء القيل والقال من دون إيجاد الأدلة الكافية، ولا تأخذها أمواج العاطفة لتتقاذفها يمنة ويسرة وإلا فقدت موضوعيتها في تناول المسائل، لديها مفارزها المتعددة والمتعاقبة بحيث لا يمرّ الخبر اليومي إلا بعد أن يجري التأكد من أكثر من مصدر مختلف من صحّة المعلومات الواردة، ولا ينشر الخبر إلا حين يكون مكتمل العناصر، ولا يمر خبر فيه بعض الشكّ بأنّه قد ينقلب عليهم.

كل هذا لا يعني أن الصحافة الغربية مبرّأة من الانحياز أو الأخطاء، ولكن أخطاءها تكون كبيرة بكبر تأثيرها، حيث تسهم بعض الصحف العريقة الكبرى في صنع القرار في الدولة، ويسترشد السياسيون ببعضها لفهم ما يجري في الأروقة، لتحليلاتها الاستشرافية القائمة على قراءة عميقة وصحيحة للواقع، ومقالاتها مبنية على حقائق ومعلومات صلبة وناصعة، ولا تُسلّم المساحات للكتابة من قبل الهواة الذين يتلمسّون طريقهم في عوالم الصحافة، فالكتابة ليست استثناءً وامتيازاً، فالأمّية تتقلص، ومن يعرفون صفّ الحروف والكلمات كثر، ولكن انتخاب من يجيد الكتابة، ويطرق الموضوع من الزوايا الصحيحة واضعاً عواطفه في منأى على أحباره.

الصحافة الحقيقية تزعج المخطئين فقط لأنها تطاردهم، أما الصحافة الرجراجة، فإنها تزعج الجميع.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية