العدد 3334
الخميس 30 نوفمبر 2017
banner
التمييع
الخميس 30 نوفمبر 2017

كنت في زيارة رسمية إلى واشنطن في عام 2001، حينما لم تكن في البحرين سوى صحيفتين، فكنت أمثل صحيفة “أخبار الخليج” بينما الزميلة سوسن الشاعر تمثل “الأيام”، فبعد يومين كنا على مائدة الإفطار فسألتني: “ألم تلاحظ شيئاً في المحطات الأميركية؟!”، وكنت سأسألها السؤال نفسه ربما، فأجبتها: “نعم، هناك ترويج كبير جداً للمثلية، إذ لا يخلو مسلسل، وخصوصاً المسلسلات الكوميدية، إلا وظهر شخص مثلي، والحوارات، والبرامج...”، ولا أذكرالآن إلى أين انتهى الحوار، ولكن النتيجة واضحة جداً، وذلك بالإفساح الكبير للمثليين في جميع الأنحاء والاتجاهات.

استعملت جزءاً من مقدمة المقال في أحد المواضيع من قبل، ولكنني أعيده هنا لأمرين مهمّين، هما: قدرات الإعلام وسطوته البالغة في المجتمعات، وذلك بضخّ الفكرة المراد ترويجها وبسطها في المجتمع عن طريق الإعلام، وليس الإعلام التوجيهي الخطابي الشائع في وطننا العربي، وليس عن طريق الهروب من المشكلة أو دسّ الرؤوس في الرمال أينما كانت المشكلة على أساس أن أفضل طريقة لعلاجها عدم المساس بها، بل بمواجهتها، وهنا يأتي الذكاء والقدرة على النشر والتأثير، وتنويع الطرْق، وقوة الأفكار، وتعديد المداخل، والأهم من ذلك استخدام العلم في إحداث التغيير، فلا تخلو البرامج الغربية من فريق محترف في الإعداد الدرامي أو البرامجي، بينما برامجنا غالباً ما تقوم على المعدّ الواحد، وبضعة معاونين في مرتبة “شغّيلة”، وهناك يرتكز البناء الفني والدرامي على الأبعاد النفسية والاجتماعية، وقياس ردّات الفعل، وكيف يتحدث الناس عمّا رأوه، وماذا تقول وسائل الإعلام، ليجري تعديل “الجرعات” على هذا الأساس.

والأمر المهم الثاني هو: الأناة وطول النَّفس، فشيوع فكرة صادمة دينياً واجتماعياً بالنسبة للكثير من المجتمعات على مستوى الكرة الأرضية ليس مقالاً يُنشر، ولا حلقة واحدة تذاع ويهنئ العاملون عليها من بعدها أنفسهم بأنهم أنجزوا وحققوا، بل تحتاج إلى كل ما تقدم في الفقرة السابقة، والكثير جداً من الصبر والمداومة، وهذا ما ليس من طبعنا، ولا من سنن الذين من قبلنا، إذ سرعان ما تأخذنا الأمواج وتقذف بنا بحسب الأهواء.

اليوم عندما تسأل عن نوعك في غوغل مثلاً يسألك: ذكر؟ أنثى؟ غير ذلك؟ لا تريد البوح؟ اليوم مع تحديثات أيقونات الواتس أب توجد أيقونة لشاب وفتاة يتوسطهما قلب الحب، وفتاة وفتاة، وشاب وشاب. وهناك الأسرة “الطبيعية”، أسر عبارة عن رجلين لديهما أطفال، وامرأتين لديهما أطفال... “عادي”، وصار شعار الألوان المتجاورة، وهو شعار المثليين أمراً اعتيادياً، ومن غير الاعتيادي الحديث اليوم عن الفطرة السليمة، وطبيعة الأشياء ومنطقها، على اعتبار أنها أمور خاصة، وليس من حق أحد أن ينتقد أو يشير بطرف خفي إلى هذا الموضوع، فما بالنا بالتحريم والتجريم.

لقد خبرنا منطق الدسّ الناعم والتمييع للكثير من القضايا، والكثير من القضايا الأخرى في طريقها لتغيير كل طرائقنا وشرائعنا وقيمنا، وهي غير موجهة إلينا حصراً، ولكنها قيمٌ جديدة يقودها الإعلام ومن وراءه تحديداً، اعتماداً على تمييع المبادئ، وإعادة تشكيلها مجدداً.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية