العدد 3096
الخميس 06 أبريل 2017
banner
“سيلفي”... والكعبة من خلفي
الخميس 06 أبريل 2017

ما إن سمعت صوت جهاز الوكي توكي الأجشّ المتقطّع يأتي من خلفي، حتى أحسست بشعر رأسي (أيام ما كان لي شعر) يقف، بلعت ريقي فإذا بصوت آمر يقول لي: “ما الذي في حجرك؟ لقد التقطتك كاميرا الحرم وأنت تصوّر”. لم يكن هناك مجال إلا أن أخرج الكاميرا من تحت المصحف، إذ كنت قد وطّنت نفسي على أن ألتقط صورة بعد صلاة الفجر للمصلين وهم يطوفون بالبيت العتيق كالموج، كما فعل المصور الياباني علي كازايوشي نوماتشي في كتابه الفوتوغرافي الرائع Mecca-Medina.

حاول زميله ثنيه، إلا أن “الصيّاد” أبى إلا أن يعضّ على الفريسة، وبعد أخذ وردّ كنت في العُدوة الدنيا، قال: “إذن، أعطني الفيلم”، وبدأنا جولة استعطافات جديدة، حتى تركني وأنا في حال يرثى لها من الإنهاك النفسي خشية ألا أفوز بالصورة اليتيمة التي التقطتها في صحن الحرم أثناء الأذان.

كان ذلك في العام 2000، إذ كان من يلتقط صورة تذكارية من الخارج ليبدو الحرم من بعيد وراءه، لا يأمن من سماع ناصح يقول باستنكار: “يا أخي، أنت جاي تعتمر وإلا تصوّر؟!”.

اليوم، ما عليك إلا أن تنظر داخل الحرم المكي الشريف، حيث يشغل “السيلفي” الطائفين والعاكفين والرُّكع السجود، عن أداء مناسكهم بوقفات و”بوزات” تستغرب ما إذا كانت هذه الفتاة تعي أين هي، وما الذي تفعله حقيقة، أو هذا الكهل الذي يصطدم بالناس هنا وهناك وهو رافع هاتفه ليصوّر نفسه، ويبث لأصحابه حتى يدعون له بالقبول، ويطلبون منه ألا ينساهم بصالح الدعاء، التصوير فردي وجماعي، ذاتي ومن قبل آخرين، أفلام وتسجيلات صوتية، وتلك التي تخصّرت منثنية وكأنها على ممشى عارضات الأزياء، مع ابتسامة غارقة في الدلال، وأجفان منسدلة، ومن ورائها الكعبة المشرّفة بجليل سوادها الموشّى بخيوط الذهب، و... هذا الذي يراقب المشهد كله، ويقتنصهم.

في سبعة عشر عامأً يتغيّر الوضع تماماً، من حُرمة التصوير لدى البعض، إلى كراهته، إلى عدم جواز التصوير في البيت الحرام حتى لا تنتهك خصوصية المصلين، والنساء منهم على وجه التحديد، إلى أن طغت الأمواج فوق هذا كله، حتى أصبح من لا يصور سيلفي مع البيت الحرام كمن لم يحجّ ولم يعتمر. ما عاد اليوم من يمنع التصوير، وربما ما عاد أحد يستنكره، وإن بلغ أحياناً مبلغاً يتساءل فيه المرء عن الروحانيات التي تتحقق مع هكذا غرام طاغ بأرشفة الكثير من الناس أنفسهم ووجوههم وكل نأمة تصدر منهم في حال عالٍ جداً من التقدير المبالغ فيه للذات، أو “عبادتها”.

لا مجال لبسط مقولات علم النفس في “النرجسية” التي تجعل الكثير منا (على اختلاف العمر والنوع) لا يملّون رؤية أنفسهم في جميع الوضعيّات الممكنة، ولكنه مجال لقولين اثنين: ما نعتقده ثابتاً أبداً، وراسخاً أبداً، سيكون ذات يوم محل شكّ، ومن بعده يأتي التجاوز. وثانياً: الناس يصنعون قانونهم ويغيّرونه، ولا يحتاجون للثورات والعنف.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .