العدد 3082
الخميس 23 مارس 2017
banner
من تقويم الاعوجاج إلى جلد الدجاج: زمن اللا يقين
الخميس 23 مارس 2017

سأستسلم لبعض الوقت للمقولات التي تتناول “التآمر” علينا، ولكن الضمير المتصل (نا) لا يعود إلى العرب والمسلمين، ولكنه هذه المرة أوسع وأعمّ من هذه الانتماءات، وصولاً إلى الناس أجمعين، فليست هذه المرة الأولى التي يجري فيها التعامل مع العقل البشري الجمعي، وتحريكه بأصابع خفية في اتجاهات معينة، امتطاءً لصهوة الأدوات والوسائل الإعلامية المتحولة والمتبدّلة، والتي كانت الأسرة في ما مضى تتحلق حول جهاز الراديو لتتلقى الرسائل، فصارت تتصنّم أمام التلفاز، ومن مسؤولية رب الأسرة أن يصطفي وينتقي ما يلائم الأخلاقيات والقيم المجتمعية؛ إلى اليوم الذي يستطيع فيه أيٌّ كان أن يتابع ما يرغب من تلقائه، فيما لا تزال الأسطوانات الرثّة تنادي بالرقابة و”الفلترة”.

إننا نتجه أكثر وأكثر إلى زمن اللا يقين، على الرغم من مبدئه الآتي من علم الفيزياء، إلا أنه صار سارياً على كل أمور الحياة، وعلى الرغم من مرور تسعين عاماً على صدور نظرية الريبة أو اللا يقين (1927 على يد العالم الألماني هايزنبريغ)، فإننا اليوم نمارس النظرية، أو تمارَس علينا، حتى ذوّبتنا في اسارها.

هذا الزمان امّحت فيه الحتميات، فلا حتميّة لصراع الخير والشر، فكلنا يرى اليوم كيف أن الشر يعرض ويستعرض وينتصر، ونرى المقاومات المنتصبة القامات وقد انحنت أكتافها وصارت تميّع المقاومة، وتبسّطها، ووتعاطى مع العدو، بل تسوّغ له أحياناً. والعدو الذي وطّدته ثقافة “موطني” ما عاد عدوّاً في ثقافة اللا حدود، واللا وطن، واللا يقين في أي شيء. 

هل تدري إذا ما كان بياض البيض أكثر فائدة أو ضرراً من صفاره؟ أليس غريباً بعد كل هذه العقود من التحذير من كوليسترول جلد الدجاج أن يأتي “العلماء” ليقولوا: كم ضيّعت على نفسك من فوائد، فلا تنزع عن الدجاج جلده لأن كوليستروله نافع؟! هل أنت متأكد أن المجموعة الشمسية التي درستها قبل 20 عاماً هي نفسها اليوم؟ هل تتوالد الكواكب أيضاً أم ماذا؟ هل عليك أن تدرس في المدارس والجامعات أم يكفيك التعلم عن بعد؟ هل السرطان مرض فعلاً أم منجم ذهب لمصانع الدواء؟ من عدوّك: “إسرائيل” أم “داعش” أم المذهب النقيض، أم أتباع الأديان السماوية الأخرى، أم اللا دينيون، أم المحافظون الجدد في أميركا، أم الصليبيون القدامى في أوروبا؟ 

من أبسط الأمور يأتينا اللا يقين، من أنفسنا حينا حينما نرى التيار يسحب في طريقه، بنعومة لا قِبَل لأحد بها، حتى أثقل العمالقة وأكثرهم رسوخاً في طين الأرض. يبدأ في خلخلة جميع ما اطمأننت إليه، ولا تدري هل ما سبق هو الصواب أم الصواب هو ما يستجد، المنطق يقول إن الجديد يجبُّ ما قبله، ولكن هل علينا أن نصدّق كل جديد؟ لا، ليس المهم أن تصدق... المهم هو ألا تتأكد، أن تكون في منطقة اللا يقين، فهذه منزلة بين المنزلتين، لا تأوي فيها إلى جبل يعصمك من طوفان التيه.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية