العدد 2851
الخميس 04 أغسطس 2016
banner
“هات الفيمتو يا أحمد”
الخميس 04 أغسطس 2016

فجأة محوت كل ما كتبته في المقال الذي كان من المفترض أن يكون هنا اليوم، واتجهت من فوري للكتابة عن العالم المصري العربي أحمد زويل، الذي أعلن عن وفاته في الثاني من الشهر الجاري، وهو واحد من أكثر الأخبار التي طافت في هذه الأيام إيلاماً، على الرغم من كلحة الأفق الذي ننظر إليه لفرط الحروب والدماء والدمار وتداعي الأمم علينا.
فزويل واحد من ثلاثة علماء من أصل عربي استحقوا جائزة نوبل عن جدارة، وليس لترضيات وتسويات سياسية، فالعرب الذين فازوا بالجائزة العالمية الأشهر هم: البريطاني العربي اللبناني الأصل بيتر مدور (1915 – 1987) في الطب العام 1960، والأميركي العربي اللبناني الأصل إلياس جيمس خوري (1928 - ...)، في الكيمياء وفاز بالجائزة 1990، وفي العام 1999 فاز بها في الكيمياء الأميركي العربي المصري الأصل أحمد زويل (1946 – 2016) في الكيمياء أيضاً. ونظراً للانفجار الإعلامي الذي حدث في السنوات الأخيرة، طغت شهرة زويل على سواه من العرب الفائزين بهذه الجائزة سواء في العلوم، أو في السلام (حيث فاز بالجائزة أربعة عرب وكيان)، ولم يساوه أحد في الشهرة والبقاء قريباً من الذاكرة سوى الأديب نجيب محفوظ.
فتح زويل أبواب الأمل والجدل بفوزه بهذه الجائزة الرفيعة، حيث جرى الحديث طويلاً وعميقاً: هل لو بقي زويل في بلاده من بعد التفوق في البكالوريوس (1967) لتوصل إلى نتيجة؟ والحديث ليس عن مصر، بل في كل الدول العربية، بل وربما في أي بلد من دون بلد المركز، والبلدان شبه الهامشية، وهي الدول الأوروبية. هل كان معه الحق ليهجر بلاده ووطنه العربي الأكبر ببيئته العلمية المتخلفة المتردّية ويتحصل على الجنسية الأميركية، أم كان عليه أن يحصّل العلم ويعود ثانية ليغيّر ما يمكن تغييره؟ هل لو عاد لكان واحداً من مئات الآلاف الذين ابتعثوا إلى الدول الغربية، وإلى أرقى الجامعات، وعادوا، وحاولوا التغيير، وتحطمت آمالاهم عند أسوار المقاومة والجمود و “الصمود” ضد التغيير والتطوير، فانهار من انهار منهم، واستسلم للممارسات البيروقراطية القاتلة للإبداع، فانخرط متحمسو التغيير بالأمس، ليصبحوا منظّري “الله لا يغير علينا” اليوم، ويتحوّلوا إلى أحد أسنان تروس الأنظمة المسطِّحة للأفكار والتجديد؟ هل كانت الدول العربية ستسخّر له الفرق البحثية المؤلّفة من عشرات من حملة الدكتوراه للإعانة في بحثه؟ هل ستعرف النظم العلمية والبحثية في هذه البقاع الفرق بين زجاجة شراب الفيمتو، وميكروسوب الفيمتو ثانية الذي خرج به زويل؟ خوفي أن تكون زجاجة الفيمتو هي الأجدى في أوساط تسخر من أي مبدع، وتحقّر أي حالم، وتئد الأفكار الجديدة، ولا تريد إلا أن تسير على الدرب الذي سار به الأولون، لأنهم رأوا آباءهم على أمّة وأنهم على آثارهم سائرون، و”يا الله السلامة”.
ليست النظم وحدها من تكسّر المجاديف، ليست البيروقراطيات وشهوة الطوابع والأختام هي فقط من تجعل العالم يركع على قدميه ويطلب الصفح لأنه قرر التفكير، أو خيّل له شيطانه أن بإمكانه اختراق ما تعارف عليه الناس والعلماء ليجترح شيئاً جديداً، أو يحاول على الأقل؛ بل الناس أيضاً يمارسون أدواراً لا تقل شراسة، ويعملون عمل المحبطات والمثبطات، إن تمكنوا من النيل من صاحب الأفكار غير المعتادة.
أذكر في تلك الأيام التي أعقبت فوز زويل بالجائزة، والحفاوة التي استقبلنا بها جميعاً (كعرب) هذا الحدث العظيم، زار زويل مصر والتقاه الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وكان من ضمن ما طلبه زويل إنشاء مدينة علمية بحثية في مصر تحتضن العلماء الشباب، وتمنحهم الفرص اللائقة لتنفيذ مخترعاتهم، وتعينهم للمضي في درب البحث الطويل الذي يحتاج إلى صبر وأناة وتمويلات ضخمة في معظم الأحيان، فإذا بطبيب من نفس جنسيته مقيم هنا يقول: “هذا جاسوس أمريكاني ابن (...) يريد أن يخلي مصر من طاقاتها العلمية باستدراجها إلى هذه المدينة، ثم يصدّرهم إلى أمريكا”! وكثر مثل هذا الرجل، وفي كل المجالات، إذ لا يستطيعون الوصول، فيستكثروا النجاح على غيرهم. ولكن هناك دائماً بصيص أمل ومحبة، إذ ربما في تلك الزيارة نفسها، زار “المرحوم” زويل مدينته دسوق التي تربّى فيها، فبعد الاستقبال الحافل الذي أحاطه به أهالي المنطقة، كان هناك رجل بسيط يجري وراء سيارة زويل التي كانت تغذّ السير، فنظر إليه زويل من الزجاج الخلفي متأثراً، فأكيد أن هذا الرجل لا يعلم ما الذي حدث، وما الجائزة، ولا قيمتها العلمية والمعنوية، ولا الاختراع الذي نال عليه ابن بلده هذه المكانة، ولا فيم يستخدم، وقد يتلعثم في نطقه، ولكنها طاقة المحبّة التي تجعل زويل، وغيره من المخلصين لبلدانهم، يشعرون بالمسؤولية لأن يعملوا ما تستحقه جذورهم.
أحمد حسن زويل، ليس فرض كفاية على العرب ولا علمائهم الحاليين، أو الأجيال الآتية، إذ لم يكن واحداً من الذين استسلموا لتمجيد الماضي، ولم يكتف بنيل الشهادات الحائطية، ولم يسمح لجذوة نشاطه البحثي أن تعصف بها الريح، حتى وضعته الولايات المتحدة في القائمة الأبرز من العلماء التي ضمت ألبرت آينشتاين، وألكسندر غراهام بل.
ربما داعبت السياسة أحلام زويل المشروعة، إذ ربما يرى البعض أن بقبضه على مفاصل السلطة يمكنه أنه يصلح ما لا يصلحه العالم والفقيه والتاجر والمثقف، ولا ندري ما الذي كان سيتوصل إليه لو خاض السباق الانتخابي المقبل، وكم سيكون معيباً في حقه أن يفشل، والمعيب أكثر أن ينجح وتبتلعه “الدولة العميقة” ليصبح جزءاً منها، لذا سنبقى نتذكر له مقولته “أكدت مراراً أنني أريد أن أخدم مصر في مجال العلم وأموت وأنا عالم”، وسنظل نذكر مقولته المشهورة: “الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل”. يرحمك الله.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .