العدد 2844
الخميس 28 يوليو 2016
banner
إنتاج النفوس الشوهاء
الخميس 28 يوليو 2016

إن أكثر ما يلاحقنا اليوم من نعوت واتهامات - عرباً ومسلمين، أو عرباً مسلمين، أو شيئاً مختلطاً لا يعرف الغربيون ما هو هذا الآتي من قلب العالم القديم، المسمى اليوم بالشرق الأوسط – تهمة الإرهاب، كون الأفراد الحاملين لهذه السحنة الدالة على منابتهم وأصولهم، والموحية بانتماءاتهم الدينية، إرهابيين محتملين، وهذه تهمة على ما فيها من الخطورة، فإنها تتسع، وخصوصاً في الأيام الأخيرة، حتى تكاد تشمل الجميع.
إنني أكاد أجزم بأن أعداد القائلين في العالم الغربي اليوم، بعدم تعميم الإرهاب وقصره وحصره في المهاجرين العرب/المسلمين، في تناقص سريع، ومن يردد هذا القول إنما يقف مع بعض الحدود العامة أو التي درج عليها في شبابه، ولكنني لا ألومهم إن كانت قلوبهم تقول غير ذلك، ومتى ما ازدادت الحوادث المشابهة للتي وقعت في الأيام الأخيرة، أو أكثر عنفاً ودماراً ودموية لما وقع، فإن ما في القلب سيكون على الشفاه، وقريباً يصل إلى المجالس النيابية التي لن تتردد في حماية أمنها وسلمها الأهلي، بأن تجد مخرجاً للتخلص من مسببي القلق، ولا أحد يمكنه لومهم. فالشعوب تترسخ لديها قناعات تجاه شعوب أخرى متى ما كثرت من جهة شعوبها مخالفات، أو جرائم، أو سلوك معين، ويمكن لأيٍّ منا أن يتفحّص ذاكرته عمّا تحمله من صور نمطية إيجابية أو سلبية عن عدد كبير من الشعوب، وهي تشكل أحكاماً مع وقف التنفيذ على أي منتمٍ لها، فما إن يأتي هذا الشخص بشيء قريب أو مطابق لما في الصورة الذهنية، حتى تترسخ القناعة لدينا بأننا لم نخطئ في هذا التصنيف. فمن أين تأتي هذه التصنيفات؟!
ألا نلاحظ أننا في أحاديثنا اليومية ننسى أنفسنا ونطلق أوصافاً على شعوب مختلفة، بالكسل، القسوة، الحيلة، الدهاء، الغباء، الدونية، الإجرام... الخ، وجميعها آتية من صورة ذهنية عززتها قصص واقعية في أحيان كثيرة.
فلو أخذنا شعبين وهما الياباني والألماني، لنرى كيف ننظر إليهما، من ناحية الانتظام، والانضباط، والإنتاجية، واحترام الوقت، واحترام الآخر، والتعامل بحرفية، والحرص على الجودة المتناهية، والدقة الشديدة في العمل، والالتزام الآلي ربما بالقواعد والقوانين، ونذهل لأن وزير الكهرباء الياباني انحنى أمام شعبه ثلث ساعة لأن الكهرباء انقطعت ثلث ساعة، وأن المستشارة الألمانية هي في الحقيقة أقوى من أدولف هتلر إذ هزمت أوروبا كلها من دون رصاصة واحدة، ويطلق الإعلام الرياضي على منتخبات اليابان “الكومبيوتر الياباني”، وعلى الألمان “الماكينات الألمانية”، استلالاً من تقدم الأولى في صناعات التكنولوجيا وعلى قمتها الكومبيوتر الذي اخترع أساساً في الولايات المتحدة ولكن اليابان أخذت شهرتها لغزارة الإنتاج وغزوها التكنولوجي للعالم، أما الثانية فإن الماكينات التي تصنعها يعدّها العالم الأجود والأكثر متانة وموثوقية.
يلعب الإعلام أدواراً مهمة في بناء الصورة النمطية للأفراد والمؤسسات والشعوب، وقد يبنيها بالحق أو الباطل، بالمبالغة في الرفع أو الوضع، ولكن السؤال: إلى متى يمكن أن تصمد الصور النمطية إذا لم يجر تعزيزها سلباً أو إيجاباً؟ أي أن صورة اليابان وكومبيوتراتها يمكنها أن تتلاشى فيما لو أخذت قصب السبق دولة أو دول أخرى، وصارت هي المركز الأساس في هذه الصناعة، وتقلصت الحصة اليابانية من السوق العالمية على مدى سنوات متلاحقة، فلن يبقى من هذه الصورة النمطية إلا الأطياف. والشيء نفسه بالنسبة لألمانيا وماكيناتها، والحال نفسها للشعوب الأخرى في الخير والشر، أو السلب والإيجاب.
الأمر في حدّه الأكبر مرهون بالأنظمة، التي تعمل على صياغة شعوبها، وتريد تقديم ناسها بالشكل الذي تريد، إن كانت تهتم بالناس في المقام الأول. الأمر متعلق بما توليه الدول من أهمية كبرى للتعليم، وليس أي تعليم، ولكنه المتجاوز لسطحيات “التعرّف” والذاهب إلى “المعرفة” الحقة. يتعلق بما توليه الدول للبحث العلمي من أهمية وأولوية كونه الرافعة الأساسية التي بها تتقدم القطاعات والمجتمعات، وليس مجرد شهادات تعطى، ومشاريع تعاقدية تجريها الحكومات والوزارات والمؤسسات مع بيوت الخبرة، وتنتهي إلى الرفوف، وإلى إشارة مقدارها سطران في التقرير السنوي بإنجاز دراسة، ولكن لا حظ لها من التطبيق الفعلي. يرتبط الأمر بما توفره البيئة للأفكار الحرّة بأن تنمو وتزدهر، وتجد لها منافذ من ضوء وماء لكي تزدهر، لا أن تقبر في مهدها لأنها جديدة وغير معمول بها، وأن الناس لم يعتادوا عليها، أو أنها ضد مشاريع تجارية لمتنفذين في الحكومات. يتعلق الأمر بكمية ما تمنحه الدول من أمان نفسي للمواطن لينمو واثقاً قوياً مطمئنا، وافر الاحترام، مصان الكرامة، محفوظ الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وليس حاقداً كارهاً للمجتمع ويترقب اللحظة التي ينتقم فيها منه، قتلاً وتخريباً ودماراً وتخويفاً ردّاً على ما افتقده من أمان، فيردّ الصاع لمن أفقده هذه النعمة حتى إن طاشت صفعته ولم تجد طريقها لمستحقيها. الأمر يتعلق بالثقة بين الأنظمة وشعوبها، فهذه الثقة الواعية (وليست العمياء) من شأنها أن تشيع أجواءً في الأجهزة الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، والمجتمع نفسه، بالراحة، والنقد لا يصبح تخويناً، بل بحثاً عن الأداء الأفضل، حيث تكون الحدود محفوظة، والحقوق مصانة، الأمر يذهب إلى شيوع ثقافة المشاركة في اتخاذ القرار، وتحمل الجميع مسؤولياتهم، والشفافية، وتوافر العدالة في الفرص الحياتية للجميع.
هذه الوصفات ليست نافية لكل أشكال الخروقات والحالات الشاذة، فإنها كما الدواء الذي لا يمكنه أن يشفي جميع الأمراض، وبالمقدار نفسه، عند كل الناس، ولكنها (الوصفات) قادرة على نزع فتائل جاهزة للإشعال من أطراف داخلية أو خارجية، وتقطع الطرق على استغلال حالات اليأس والإحباط والغل المتعاظم في نفوس الشعوب المقهورة، ليشكلوا من هذه النفوس المشوهة قنابل بشرية تمشي على رجلين، قد يعمل الأكسجين الذي تصادفه في بيئات أفضل على إذكاء عوامل الاشتعال في داخلها... ولكن من يعذرها؟!.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .