العدد 2830
الخميس 14 يوليو 2016
banner
النوافذ المكسورة والأبواب المفتوحة
الخميس 14 يوليو 2016

الأبواب والنوافذ، كلاهما فتحات في الجدران، كلاهما تجمّلان المباني أو تشوّهانها، وكلاهما تفتحان الداخل على الخارج، والخارج على الداخل. غير أنه من الذوق الدخول من الباب، ومن عدم الذوق الخروج من النافذة أو الشباك. القرآن الكريم يدلّ الناس على أحد الأسس التي يجب ألا تخرق “وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا” [البقرة: 189]، وإن كان سياق الآية مختلفا عن الفعل الاجتماعي، ولكنها قاعدة أخذتها المجتمعات، سواء في الحديث، أم في المباشرة لعمل أي شيء، إذ إن الباب هو المدخل الشرعي والطبيعي لأي بناء، وهو أيضاً المخرج من هذا المبنى. والباب أيضاً هو الذي إذا أتتنا منه الريح العاصفة، علينا أن نسدّه ونستريح، فهو الحارس لأي مبنى. ونقول: “دخل التاريخ من أوسع أبوابه”، ولم نأت على ذكر النوافذ هنا. ولكنني لا أدري من القائل: “إذا دخل الفقر من الباب، هرب الحب من الشباك”، إذ غالباً الهروب يكون من أضيق الزوايا، وأكثرها ارتباطاً بالعار والشنار (استطراد لغوي: الشنار هو العيب الذي فيه عار).
الباب والنافذة لهما وظائف بالغة الأهمية في البناء المُصمت، فقد يكون البناء حقيقياً، وقد يكون افتراضياً، وللبناءين أبوابه ونوافذه. النافذة تُدخل النور والهواء، ولكن من يدخل من النافذة سوى اللصوص الماديون، وربما العاشقون؟!
أعود، ربما للمرة الثالثة للحديث عن نظرية “النافذة المكسورة”، وهي نظرية في علم الجريمة نشرت لأول مرة في العام 1982، وهي تعود لكل من جيمس ويلسون وجورج كيلينغ، ومفادها أن كل شيء يُهمل، تطاله يد التخريب، وما لم يجر إصلاحه، سيثير هذا الأمر شهوة آخرين لإحداث المزيد من التدمير فيه. واستعان صاحبا النظرية بمثال: لو أن بناية مهجورة جرى كسر نافذة فيها، ولم يجر إصلاح النافذة، فإنه بعد زمن قصير سترى النوافذ تتكسر الواحدة تلو الأخرى. كذلك الحال مع السيارات المركونة لفترة طويلة دون تنظيف أو تحريك. مبدأ النظرية بسيط ولكنه عبقري في تقنينه ثم جعله أُنموذجاً قابلاً للتطبيق على أرض الواقع، فوجود النوافذ المكسورة في الشوارع يشجع المارة على كسر المزيد منها من باب العبث، ثم يتجرأ الفاعل فيكسر نوافذ السيارات، ثم يتحول العبث الى جرأة فيتم اقتحام البيوت وسرقتها، أو إتلافها، كذلك الحال بالنسبة لوجود بعض المخلفات البسيطة مما يشجّع على رمي المزيد من المخلفات والزبائل حتى ينعدم الذوق العام ولا يصبح للنظافة معنى. جوهر النظرية مبني على علم النفس البشري الذي يقول إن الإنسان لديه قدرة وحب الانضباط والالتزام بالقوانين والآداب العامة متى ما توفرت له البيئة المشجعة على ذلك، وسرعان ما ينفك من هذا الالتزام متى ما رأى الانفلات من حوله.
إنها مسألة قائمة على مبدأ لخصته العرب بقولها “إن معظم النار من مستصغر الشرر”، فإذا ما تركت الأفعال البسيطة من دون ضبط، تحول إلى سلوك عام من الصعب حمل الناس عن الكف عنها، وتعاظمت حتى يصعب إعادة السلوك الحميد الذي كان عليه المجتمع، أو على الأقل السلوك السابق للتدهور، وخصوصاً إن لم تكن هناك رؤية، أو لم يكن هناك استهجان للتغيّرات السيئة الحاصلة في المحيط.
الأمر نفسه ينطبق أيضاً على الدول. فهناك دول كان لها شأن عظيم، وكانت سبّاقة ورائدة في الكثير من المجالات، ومحط الأنظار، ومقصد السياح، ومنبع الثقافات والفنون، وملتقى المبدعين، وصاحبة خطوط الموضة النسائية والرجالية، ثم فجأة ورث بعدهم قوم أضاعوا كل هذه المكاسب، وألهتهم شؤون أخرى ربما، انغمسوا في خاص الخاص، حتى أخذت الشعلة منها دول كان أهلها يتعلمون فيها، وكانت تابعة، لا شأن لها.
الدول التي تعكف على تجديد شبابها وحيويتها صارت اليوم ملاذاً لمن أراد تجارة، أو سياحة، أو تعليماً، أو ثقافة، أو مشروعاً جديداً، أو إبداعاً، أو اختراقاً للمألوف، أو انطلاقاً خارج الصندوق، أو تنفيذ فكرة مجنونة، أو حتى عاقلة ولكن من دون أن يشاركه فيها أحد، ويقاسمه الغلّة، ومن بعد ذلك يطرده من مشروعه ويستولي عليه، ولمن أراد السرعة في الإنجاز، والحصول على الموافقات الرسمية، والتسهيلات التي تفوق ما يحدث في أكثر الدول تقدماً، والتيسير، والتمكين، كلها أمور فتحت دولٌ أبوابها مشرّعة أمام هذه المشاريع الخلاقة، وقالت “هيت لك” لكل مغامر، وصاحب مشروع، وأي رأس مكتنز بالأفكار، فصارت أسماء هذه الدول مرتبطة بأي مشروع جديد، أول ما يفكر فيه الإنسان، وأول مكان ييمم وجهه شطره. هذه الدول لا تضيق بكل هذه القوافل من المتجهين إليها، بل تتسع لهم، وتنمّي بنيتها التحتية للمزيد والمزيد، تسابق الآخرين في التفكير بما سيأتي، وتحثّهم عليه.
بينما يغزو الغبار دولا أخرى، أهملت نفسها فأهملها الناس، أفقرتها أنظمتها، امتصّت خيراتها، أذهلت أهلها وأشغلتهم بالتسوّل وملاحقة أرغفة حياتهم اليومية وهي تتدحرج إلى الهاوية، فكلما أرادت أن تطل من نوافذها المهشّمة المحطّمة، باغتتها أحجار الصبية وهم يتسابقون لتحطيم ما بقي من زجاج في النوافذ، قبل أن يتخذها المشرّدون مأوى لهم، في أسوأ أوضاع العيش وأقلها جودة، فتخيّم عليها الكآبة، وينساها العالم، ولا أحد ينتبه إلى ما كانت عليه هذه الصبيّة، ولا ما صارت إليه، ولا أحد يتلفت أساساً فالأضواء الآتية من أبواب الدول المبهرة لا تعشي الأبصار، بل تفرش لها البُسُط لتمهّد لها هذا المرور اليسير لترك دول الإهمال تتخبط في المزيد من الظلام والنسيان. وإذ لا دائم إلا وجه الله تعالى، فإن من شأن دول الجذب اليوم أن تداوم على صيانة هذه الجاذبية، والاستمرار في إبهار العالم إن أرادت لنوافذها السلامة، فعليها فتح الأبواب بحسابات لا تخلو من المحددات اللازمة لضمان عدم تسلل الأعمال غير القانونية. وكذا شأن الدول الأخرى، أن تكون إدارتها وطنية بحق، تبدأ في علاج صغائر الأمور، وتخيط الشقوق في أشرعتها، الصغيرة منها والكبيرة، قبل أن لا يبقى للشراع شكل، وتصمد في وجه الأنواء، فطريق العودة إلى السباق صعبة جداً، ولكنها ممكنة لمن أراد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية