العدد 2778
الإثنين 23 مايو 2016
banner
مذكرات مسؤول سابق
الإثنين 23 مايو 2016

انتهيت قبل فترة من قراءة مقال لأحد الخبراء الخليجيين في مجال الموارد البشرية، وتعريفه “مدير سابق” في المؤسسة المعنية عن الخدمة المدنية في بلاده. قادني هذا المقال لتتبع مقالات الرجل في هذه الصحيفة، وفي الفيس بوك، فكانت في مجملها ترسم السبيل أمام هذه القطبية التي لا تنتهي في الأعمال، سواء في بلادنا أم في البلاد المحيطة، بل في الكثير من بلاد العالم، وإن كانت على درجات متفاوتة، فإن طرفي الأعمال، الموظفين والإداريين، يستحضرون جميع الموروثات والأساطير التي تخدمهم في تعزيز صيغ التنافر بين طرفي المعادلة، بدلاً من تكاملهما لما فيه مصلحة المؤسسة، وربما مصلحة الناس إن كانت جهة خدمية.
التقيت بعدها بأحد مواطنيه، وأعربت له عن مدى إعجابي بطرح المدير السابق، ولكنني كنت أرى ملامحه تتغضن كلما أطنبتُ في الحديث عن ابن بلده، حتى قاطعني بأن هذا الذي أتحدث عنه ما كان ليفعل شيئاً في صالح الموظفين، وطالما كان الحجر الواقف في طريقهم، والعقبة التي كانت تنتهي عندها غالبية الأحلام والطموحات. لم آخذ كلامه كله، ولكنني سألت شخصاً آخر، فإذا به كان يعمل في إدارة قريبة من إدارته، فقال فيه قولاً من موقع العارف الخبير والمعايش للمدير السابق، فما كان منه إلا أن أكد ما ذهب إليه الرجل الأول، وزاد عليه بسيل من الأمثلة والمواقف التي عايشها هو أو التي نقلها له الثقات من زملائه.
المدير السابق، وتناقضات ما كتبه وما كان يفعله، يذكرني بالرؤساء الأميركيين الذين يكتبون مذكراتهم مرتين في السنوات الأخيرة. الأولى كيف تدرجت حياتهم حتى وصلوا إلى البيت الأبيض، ومرة أخرى يكتبونها بكيفية قيادتهم للولايات المتحدة، وكيف استطاعوا من المكتب البيضاوي أن يتخلصوا من أبي مصعب الزرقاوي، وتصديهم لأعتى الرياح، وأصعب المشاكل. والغريبة أن غالبية من اطلعت على ملخصات مذكراتهم ما بعد الرئاسة، يشيرون إلى أن القضية الفلسطينية كانت على وشك الحل، وأن الأقلام ملئت حبراً للتوقيع على ما ينهي الصراع من وجهة النظر الأميركية، إلا أن دورة الرئاسة انتهت فجأة، ولو قدر لهذا الرئيس أو ذاك أن يستمر ستة أشهر إضافية لفعل ما لم يستطعه الأوائل! معظم هؤلاء الرؤساء يقرّون بعد فوات الأوان بالحق الفلسطيني، ومعظمهم يكتشف فجأة أن الشعب الفلسطيني يستحق أفضل مما حصل عليه.
على خلاف مذكرات الرؤساء الأميركيين، فإن حال الدول التي تقلّ فيها المراقبة، وتتراجع فيها المحاسبة الحقيقية، يشير إلى السلطان العظيم الذي يتمتع به من يتسلمون الإدارات الوسطى ومن فوقهم، والمتمثل في ممارسة الضغط والمراقبة على الموظفين، وملاحقتهم أينما كانوا، وإشعارهم بأنهم متهمون بدءاً إلى أن يثبتوا أنهم يعملون أعلى من طاقتهم البشرية، فلعل سيدهم يرضى، وسيدهم هنا هو من بيده الثواب والعقاب، والخفض والرفع، والترقية أو الطرد، وكأن هذا هو النهج القويم لتكوين أمة من الجبناء الذي يرتعدون إزاء لقمة عيشهم، وهم يفكرون في من هم معلقون في رقبتهم فيما لو قضت المشيئة الهوجاء أن تتخلص منهم لأي سبب كان. فترى المسؤولين يتفننون في اجتراح القوانين والإجراءات الخانفة للإبداع، والمتمسكة بأتفه “مظهر” من المظاهر الوظيفية وهو الحضور والانصراف، من دون النظر إلى “جوهر” توظيف الشخص في أي منصب على اعتبار أنه الأداء، والأداء العالي الجودة، والفعال، والذي يمكنه أن يسهل، أو يرتقي بالعمل الذي هو من ناحيته في الأساس.
إن الكثير من المسؤولين على مختلف مستوياتهم لا يستغربون من استغرابهم عندما يرون الموظف في تلكم البلدان وهو ينتج بجودة عالية، وانضباط، كما يستغربون من كمّ الإبداع الذي تتحلى به مجتمعات لا تمت إلى عاداتنا الوظيفية بصلة، ولا إلى الكبت الممارس، ولا إلى سرقات الأفكار والمقترحات ونسبها إلى المسؤول، ولا القولبة التي تفرضها الأنظمة وتطبقها كثرة من الإداريين، بل ويكررون – بإيمان عميق، ودفاع مستميت - التبريرات نفسها التي كانت تضايقهم كثيراً، والتي كانوا ينفرون منها عندما كانوا موظفين صغاراً، عندها يبتسم الأخ الأكبر (السيستم) لأن تربيته في تدجين الناس وتركيعهم له، وتبني مقولاته، والدفاع عن أفكاره دفاع وجود متأسس على الجمود عند ما تعلمناه من آبائنا، وإننا على آثارهم سائرون. ثم نأتي لنقارن المقارنات المملة المهترئة عن “عندنا” و”عندهم” وكأننا أبرياء مما يحدث عندنا، أو لسنا بعضُ صانعيه وسانديه!
وما إن تحين ساعة الفراق، وتنتهي أيام الراحة الأولى من بعد التقاعد، يبدأ سدنة الأنظمة الجامدة والقاتلة في التمطي لإزالة الجلد السابق،  وخلع ثياب المسؤولين الذين كانوا، والخروج بمظهر الخبير، والناصح الرقيق، والمعلم الربّاني، وصاحب الحكمة في التعامل مع من هم دونه رتبة، وكيف كان يحمل المشاكل بحكمة، وكيف كان يفوّض موظفيه، ويمنحهم الصلاحيات، ويسند إليهم المهمات، وينيبهم للقيام بأعماله أثناء إجازاته كنوع من تهيئة الصف الثاني من ورائه، إضافة إلى الدورات العالية، والدفاع عنهم وعن كرامتهم ولقمة عيشهم أمام الإدارة. وعليك أن تتخيل أيها القارئ الكريم كم القصص التي تساق في هذا الصدد، مؤثثة بالمثاليات، مترعة بالتسامح والمحبة، مفعمة ببث روح الأمل، مشحونة بالتحدي والإبداع، وما هي في الحقيقة إلا الأمنيات التي كانت تدور في ذهن صاحبها، بينما ما عليه لم يكن ليرتفع عن الأرض.
مذكرات الرؤساء الأميركيين السابقين، ومذكرات المسؤولين السابقين سواء، أغلبها هراء، ولا هدف لها سوى التكسب ببيع الهواء.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .