العدد 2774
الخميس 19 مايو 2016
banner
يا منابرُ لكِ في الدروبِ منابرُ
الخميس 19 مايو 2016

قد يكون المشروع بقانون الذي أحالته الحكومة إلى مجلس النواب الأسبوع الماضي، والرامي إلى حرمان رجال الدين من الجمع بين المنبر الديني والعمل السياسي، واحداً من أهم القوانين إذا ما مرّ عبر القنوات المعروفة وصدر، فهو سيعالج هنّة وقعت فيها البلاد في إبّان التسابق الذي حدث بين العامين 2000 و2001 في إعادة النيابية، والإفساح للحياة السياسية أن تتنفس بشكل طبيعي واتخاذ العمل في الداخل مجالاً لها لتجنيد أعضاء وكوادر، الأمر الذي أدى إلى اصطناع البطولات، والدخول في مراهقات حركية بالنسبة للكثير من الذين يجتمعون ويتهامسون وهم يتلفتون حذراً، ويرسلون إلى خارج البيت من يقوم بجولة للتأكد من عدم وجود “قراريص” في الأنحاء، مع الأخذ بالحيطة والحذر الحركيين في الاجتماع والانفضاض. وكل هذا أيضاً مفهوم في ذلك الزمان وله مسوّغاته التي ربما لا يعرفها الكثير ممن بدأوا حياتهم السياسية في أوقات الرخاء النسبي.
ففي تلك السنوات جرى السماح، وبشيء كبير من السماح لأن تتكون الجمعيات السياسية، ومن بينها الجمعيات ذات النسق الديني، أو “الدينوسياسي”، وليست المعتمدة على الفكر السياسي الذي يربطها والذي يمكن أن يشتمل على كل مكونات الوطن ضمنه، فتشكلت جمعيات سياسية في البحرين مؤلّفة كل منها من فصيل في طائفة، أي بهوية أضيق من الهوية الطائفية نفسها. حذّر البعض في الإبّان من خطورة ما يمكن أن ينزلق إليه الموقف في المستقبل، ولكن كان تأُثير “السكرة” بالانفراجات، وعدم الرغبة في تكدير أي مكوِّن وطني راغب في المساهمة في العملية السياسية، أكبر بكثير من “الفَكرة”، فلم تكن هذه “الفكرة” لترى ما هو أبعد من مواطئ قدميها، على أمل أن يستمر الوفاق الوطني، والانشراح السياسي، والتوافق المجتمعي، والحلول الباسمة أمام المشاكل الناعمة. ولكن ما إن اشتد عود الجمعيات “الدينوسياسية”، وارتصّت صفوفها، حتى باتت تستعرض قواها، وما لديها من جموع، وأنها قادرة على الإزعاج، تغيير المعادلات، أو قلبها لصالحها إن تطلب الأمر. وهذا – في العرف السياسي – جزء من اللعبة التي إن ارتضيناها فمن الصعب أن نوقفها في منتصف الطريق، ولكن... يمكن تعديل المسار، والمضي في “اللعب السياسي” بما يجري التوافق عليه.
ولكن اللبن المسكوب لن يعود أبداً إلى الجرار أو الدنان، ولا فائدة الآن من التحسّر على جريانه أو سكبه، وكما في الكثير من الحالات التي يجري علاجها لاحقا، فإن علاج رجل الدين السياسي، أو المنبر الديني المسيّس، سيكون موجعاً وذلك بعد أن جفّ الطين، أو يكاد بعد هذه السنوات من الممارسة، ومن التحذيرات، ومن التوغّل أحياناً، والتغوّل أحياناً، واحتساب المِلل برّمتها على تصريحات رجال دين مسيّسين، أو هم ساسة حقيقيون، وتبدأ الكثير من المواضيع تتعقد جراء ذلك إذا ما نطق به هذا أو ذاك من أمور الدين أم من أمور الدنيا، وهل يجوز انتقاده وتفكيك خطابه أم لا، وهل هذا يعتبر ضرباً في الوحدة الوطنية، أو سيؤدي إلى تكدير السلم الأهلي، والحذر كل الحذر لئلا يتكدر السلم الأهلي المنشرح الأسارير.
أعود سريعاً لتنشيط الذاكرة بأسماء ووجوه كمّ من رجال الدين الذين دخلوا البرلمان ومارسوا الصلاحيات الثلاث: السلطة التشريعية، والسلطة الدينية، والسلطة السياسية/الاجتماعية، فإن لهم إسهامات جيدة في بعض الأحيان، ولكننا (ربما أعني نفسي على وجه التحديد) نحبس أنفاسنا في الكثير من المفاصل حتى لا تنفجر المعارك، وتضج قاعة المجلس بما لا يليق من أوصاف وترام بالتهم، ينتهي الأمر بعد الكلمات باللكمات، هذا ليس حال رجال الدين، فلقد حدثت في مجلسنا بين آخرين ليست لهم الصفة نفسها، ولكنها مع رجال الدين تأخذ أوضاعاً ذات معان عميقة... ومرعبة أيضاً، ونزفر إذا ما انتهى الموقف على ابتسامات بلاستيكية، وتوافق هش.
ومع كل ما تقدم، فما تعريف “المنبر”؟ هل هو مجرد السطح الذي يرتقيه الخطيب يوم الجمعة بعتبات معدودات في المسجد؟ كيف سيجري منع رجل الدين - مع ما تعب رجال الدين من تعليمنا إياه في الثمانينات بأنه لقب كنسي إذ ليس في الإسلام رجال دين - من ممازجة الدين والسياسة معاً إن شاء؟ كيف يمكن منعه من إنشاء مدوّنة إلكترونية يمكن اعتبارها منبراً ولا كل المنابر التي يحضرها من يحضرها ويغيب عنها الكثيرون وإن تقاطروا إلى المسجد؟ كيف يمكن منع رجل الدين من استخدام السناب تشات مثلاً في إرسال رسائل أو خطب لكي تكون أقوى من أقوى منبر؟ كيف يمكن أن يُمنع عن رجل الدين تصوير نفسه في اليوتيوب مع إخراج وإضاءة وموسيقى ومؤثرات وصدى صوت ودقة عالية في التسجيل، وهي أمور متاحة تحسن القيام بها ثلة من المراهقين، ويمكنه “استثمارهم” باسم التقرب إلى الله، ودحر الطرف الآخر، وعدم تمكينه من إطباق الأصابع على الأعناق؟ ألا يمكن لرجل الدين اليوم اتخاذ الكثير من المنصات الإعلامية مما نعرفه الآن، وما سيستجد علينا غداً إذ يعج عالم التواصل الاجتماعي اليوم بأكثر من 1600 وسيلة.
أعود إلى وجهة نظري القاصرة، بأن هذا القانون سيكون مهمّاً في حال صدوره، ولكن أخشى أن يجري مسح العرق عن الجباه بأن باباً كانت تأتي منه الريح، قد أغلق، ولكنه في الحقيقة لم يكن مغلقاً إلا عن نسائم رقيقة في قبالة أعاصير فيها نار يمكن أن تأتي من كل مكان.
الحل سيكون في يد الجماهير ورجال الدين أنفسهم، أن يتفهموا أنّ لكلٍّ دوره، مع كشف القداسة المفرطة عن رجل الدين بشكل عام خصوصاً إن دخل ملعب السياسة، من دون التخلي عن احترامه كما هو احترام أي شخص آخر في المجتمع، على اعتبار أنه كالمعلم والمؤرخ والمهندس واللاعب والصحافي والمحاسب والفلكي والزارع والصانع والطبيب، يخطئ ويصيب.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية