العدد 2746
الخميس 21 أبريل 2016
banner
كلام الوردي والفعل الكالح
الخميس 21 أبريل 2016

لم أجد بُدّاً من الاتفاق التام مع ما ذهب إليه المفكر العراقي الراحل علي الوردي، حين قال: “لو خُيِّر العرب بين دولتين: علمانية ودينية؛ لصوّتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية!”، وهذا الكلام، كما لاحظتُ وعايشت، كثيراً ما ينطبق على واقعنا المحلي، وعلى الكثير ممن أعرف من أصدقاء وزملاء في دول عربية.
فهناك حالة انفصام بين ما يفكر فيه الإنسان العربي، وما يعمله. ما يريده هو بشكل حُر، وما يريده منه المجتمع. ومع أن المجتمع – بحسب التعريفات الكلاسيكية – هو “المجموعة البشرية التي تعيش في منطقة مساحية معينة”. ويعرّفه آخرون بأنه “كل مجموعة أفراد تربطهم رابطة معروفة لديهم ولها أثر دائم أو مؤقت في حياتهم وفي علاقاتهم مع بعضهم، ويعيشون في منطقة مساحية معينة، ولهم لهجة أو لغة مشتركة، ولهم خصائص ثقافية وحضارية ومعتقدات وعادات، ويتشاركون في كل الصفات والخصائص التي يملكها مجتمعهم”. وهناك الكثير من التعريفات، خصوصاً مع دخول الإنترنت، حيث صار يشكل منذ مطلع التسعينات مجتمعاً افتراضياً ـ ويتحدث أفراده أينما كانوا لغة متقاربة المصطلحات، ولهم ثقافة أساسية...الخ، ولكن ما يهمنا في هذا الموضوع، أن المجتمعات التي شهدتها، تتقارب إلى حد كبير في نفاق أفرادها وجبنهم عن الإفصاح عن حقيقة ما يفكرون به، وحقيقة مكنوناتهم، وهذا ما يمثل ضغطاً غير اعتيادي على نفسيات الأفراد، وطريقة تعاطيهم مع الأفكار، البسيطة منها والمعقدة.
فكثيراً ما جالستُ أناساً يعلنون رفضهم وتمرّدهم على جملة من الأفكار والنصوص والقيم مما يُعتبر من ثوابت المجتمع، أو الآراء الدينية التي يروَّج لها من قبل فقهاء معينين يتسمون بالتشدد، وضيق مساحات التسامح وتفهم من هم ليسوا على المذهب ذاته، فضلاً عن أولئك الذين لا يدينون الدين نفسه، وترى هذا المثقف ساخطاً على هذا الرأي، وهذا الخط، خارجاً من الأنساق الثقافية والاجتماعية البائدة أو تلك التي تترنح وهناك من يحاول إسنادها بالقوة، ولكن هذا الشخص الساخط نفسه لا يملك إلا الانصياع للرأي هذا في العلن، فيكون في الموكب نفسه سائراً، يحاول أن لا تلتقي عيناه بعينيك حتى لا تسأله من بعد: “كيف هذا؟”، ويجد له بعد ذلك أطناناً من الأعذار والمخارج والتبريرات. ويزيد بأن يستخدم كل قدراته الذهنية العليا ليلبس ما يريده المجتمع على حساب ما كان يدّعي الإيمان به سرّاً.
كثيراً ما نرى التناقضات الصارخة بين الفكر والتطبيق، لدى القطاعات الأكبر من الناس، ولستُ بريئاً من هذا، فهناك صورة عامة نريد الظهور عليها أمام الناس، الذين هم بدورهم يتسترون بأقنعة يريدون أن تكون هي الواجهة التي يواجهون بها المجتمع، والآخرين، وأنت تعلم أنني لستُ أنا حقيقة، وأنا أعلم أنها ليست كما تقول، وهم يعلمون أن أولئك يتظاهرون بما ليس فيهم، فكلها سلسلة من المراوغات الاجتماعية التي نحرص كل الحرص على الإبقاء عليها، ودفن شخصياتنا الحقيقية في الغرفة المظلمة من أنفسنا ودواخلنا، فتقول العرب: “المروءة أن لا تفعل في السر ما تخشى أن تفعله في العلن”، ويكاد لا يخفى في مجتمعات اليوم، الحقيقية والافتراضية، ما يجري في العلن والخفاء، ومع ذلك نتجمّل، ونجامل، ونمثل على بعضنا ما شئنا أن نمثّل، حتى نصدق أنفسنا وأدوارنا وكذبنا!
كثيراً من الذين هاجروا من أوطانهم في العقود الأخيرة، وخاطروا بحياتهم وحياة من يحبون، للوصول إلى دولة أوروبية تحترم الحدود الدنيا من إنسانيتهم، ولن تكون لهم جنّات الله على الأرض، ولكنها ستوفر لهم جوانب مما كانوا يسمعون به مجرد السمع، كالكرامة، والإنسانية، والعدالة، وحتى المساواة التي هي أقل درجة من العداوة؛ هم أنفسهم كانوا من الذين وقفوا مع الأوضاع الفكرية والاجتماعية المعوجّة، وصوّتوا لمن لم يزدهم إلا فقراً وخوفاً وإلا لما انتصر الظلم في كل جولة، صحيح أن الأحذية الثقيلة، وفوهات الرشاشات الساخنة تفعل فعلها في أي مجتمع لا تستقلّ سلطاته بتراتبيّة واضحة، وتتركز فيه السلطات جميعاً في يد الحزب؛ لكن الإذعان المريب للشعوب عمّا يصلون إليه، والموافقة البادية للعيان، والضمنية، والقول إن “هذا الذي نحن فيه أفضل من أوضاع أخرى، فاتّعظوا يا أولي الأرباب”، لهو من قبيل وأد الحلم، وتأجيل العيش كما تشتهي وتتمنى إلى جيل آخر.
كثيراً ما طبّقت مقولة الوردي على موضوع أصغر بكثير، وهو من المواضيع التي كانت تثار في “عزّ” ما عُرف بالصحوة الإسلامية، بين الطلبة والطالبات في المدارس الحكومية (وهي في بلادي غير مختلطة)، عما إذا كانوا يودون الدراسة في جامعات مختلطة أم أحادية النوع، فكان الجواب الحماسي الحاسم يأتي بأن “لا للاختلاط”، وما هي إلا أشهر لترى العكس، والعكس تماماً غير الذي قاله. إنها البداية غير الرسمية للشخصية المتذبذبة وغير الواثقة، المتربية على أن تكون أفضل غرفة في البيت وأكثرها أناقة هي غرفة الضيوف، لأنهم لا يجب أن يروا إلا الجوانب غير الحقيقية في حياتنا اليومية، وبينما يأكل أهل البيت في كل ما هو مهترئ ومثلوم؛ تقدم أفضل الأطباق لمن سيأتي مرة واحدة ويمضي، وتعود الأسرة إلى استخدام كأس كريمة الجبن لشرب الشاي بعد أن أعادت الطقم الأفخم لديها، بصرف النظر عن فخامته الحقيقية، إلى علبته، حتى الضيف الآخر.
كثيرة هي الأمور الصغيرة التي تتعالى وتتعانق وترسم في محصلتها شخصياتنا في تعاطيها مع أنفسها، وتعاطيها مع مجتمعاتها، ولا عجب أن تراها محبوسة نفسياً وفكرياً وعاطفياً في عالم برزخي لا يمكنها العودة إلى الحياة بكامل طاقتها، ولا هي التي يمكننا دفنها من دون الترحم عليها.
ليس فقط أن نصوّت للدولة الدينية ونذهب إلى تلك العلمانية، بل إننا نمارس جل التناقضات معاً من دون التوقف مع أنفسنا نصارحها ونصالحها ونتصالح معها، حتى لا تمضي حيواتنا في أحلام لا تأتي.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .