العدد 2361
الخميس 02 أبريل 2015
banner
فاطمة خميس سراج البيت درس الحياة حمد الهرمي
حمد الهرمي
ستة على ستة
الخميس 02 أبريل 2015

عام أول يمر على وفاة فاطمة خميس زوجتي التي سمحت لي الظروف بالبقاء قربها على فراش الموت مدة عامين وهي تقاتل المرض بكل شجاعة، صابرة على الورم الذي نهش أحشاءها، وبرودة لندن التي ضاعفت من غربتها وابتعادها عن أبنائها، أحمد، فوزية وشيخة، كلنا تعلمنا درس فاطمة في الصبر والتضحية والإيمان والرضا بحكم ربها، وكلنا فطرت قلوبنا وهي تغادر الحياة مبتسمة مثل ملاك، كأنها تقول لقد أديت كل واجبي تجاهكم وما أطلب منكم سوى قطعة قماش تسترني وحفرة صغيرة قرب أجدادي ثم اذكروني بالخير.
المناسبات التي تحفر في القلب ذكراها تجعل الشخص يعيد كل الذكريات ويستعرض بينه وبين نفسه مشاهد حياته، وذكرى وفاة فاطمة هي المناسبة الشخصية الأعنف التي تضعني في حالة حساب وتدقيق على كل الأمور، وهذا ما سيجعل زوجتي تبقى طوال حياتي مشروعا لإصلاح ذاتي وتهذيبها والمحافظة على مسار حياتي معتمدا على النزاهة واضعا الحق دستورا لا أحيد عنه.
رغم صغر سن زوجتي فاطمة حينما مرضت ووافتها المنية بعدها بسنتين ورغم رحلة العلاج خارج البحرين الطويلة التي أبعدتني عن الأبناء الا انني اليوم اعيش أسمى علاقة أبوية مع ابني أحمد وابنتي شيخة وفوزية، وأنا اعيش هذه اللحظات الاستثنائية معهم فهمت إصرار فاطمة رحمها الله قبل شهرين من وفاتها على العودة الى البحرين واستكمال العلاج في السلمانية رغم أنها تحت عناية أهم البروفيسورات الإنجليز الذين يحاولون إنقاذها، الآن عرفت انها تريد ان تنجز خلال شهرين فقط مشروع ترميم شامل لعلاقتي بالأبناء وعلاقة العائلة بأكملها معهم، قامت بتصميم عائلتها بما يتناسب مع عدم وجودها، فهيأت مشاعر الأبناء وقومت فيّ مشاعر الأبوة ممزوجة بحنان الأمومة التي أورثتني إياها كأغلى ما لديها وهي تضحي بأمل العلاج في لندن ويطمح له كل مريض لتسلم الروح مطمئنة لترابطنا ومودتنا ومحبة كل فرد في العائلة لأبنائها اليتامى. لم تتجاوز الثلاثين ربيعا بينما يلهمها الله حكمة من بلغ الستين، لتمهد بحكمتها حياتنا بعدها دون ان يثبط عزيمتها شيء حتى الآلام المبرحة التي كانت تعاني منها لم تمنعها من أن تلقن الدرس للأبناء ولي شخصيا ولكل شخص في العائلة، تعلمنا كيف هي التضحية، تقول لنا كيف يجب علينا ان نحب بعضنا البعض، تشرح للأبناء وتعلمهم ألا ينتقموا من ظلم الوقت لهم، بل عليهم ان يستعينوا بعقلهم للاستفادة من الحياة والتصالح مع القدر. تضع احدى يديها مكان الألم وتعصره لعل ذلك يساعدها على التماسك فتنجز كل واجبات الأم بيدها الأخرى رغم ارتجافها وقلة حيلتها امام هذا المرض المتوحش، حتى حينما أثور على طاقم المستشفى مع تأخر العناية بها، تلتفت لي وقد ابتسمت رغم ما تعانيه لتجعلني أهدأ، فأنهار داخليا كيف لهذه الفتاة التي يأكل احشاءها الورم تستطيع ان تحتفظ برباط جأشها بينما انا أنساق وراء الانفعال، علمتني أن الانسان يثبت قوته وجدارته حينما يكون متماسكا في الشدائد وليس في الرخاء، تريد ان تقول لي إن أمامك معتركا كبيرا يحتاج منك الصبر وطول البال وأن تكون حليما.
يا فاطمة لقد أوفيت كل عهودك، ودروسك التي نقشتها على قلوبنا، تحمينا وتجمعنا وتجعلنا متماسكين كعائلة، أبناؤك لا يزالون يبذلون الجهد في دراستهم وحياتهم سعيا لأن يكونوا جديرين بأم مثلك، ليؤكدوا أن درسك في الحب والأخلاق والأمل أثمر وبدت براعمه واضحة مزهرة. يا فاطمة عائلتك، إخوتك، والديك، الأصدقاء في الحي في وزارة الإسكان لا يزالون يطوفون حولنا مثل ملائكة حارسة، نعرف انك تبعثينهم لنا ليمدونا بطاقة الحب التي كنت تمدينا بها، قلوبهم الطاهرة اللاهجة بالحب تقول إنك نجحت في الحياة رغم ذهابك المبكر، نجحت لكي تكوني خالدة في القلوب وذكراك السنوية شيء من كرمك يعم على الجميع في هذه العائلة المكلومة بموتك الفاجع. نامي قريرة العين، واعلمي أنك لم تغيب يوما عنا بل تأتين على طريقتك الرشيقة كل يوم حينما تدخلين البيت بابتسامتك التي تجعل لحياتنا معنى، تقدمين لنا ما لم تقدمه امرأة لزوجها أو ابنة لأمها وأبيها أو أم لأبنائها، ما أعطيتنا إياه في سنوات قليلة يكفي الحياة كلها، شكرا لك يا فاطمة يا سراج البيت.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .