العدد 2781
الخميس 26 مايو 2016
banner
ضحكوا علينا ... مؤنس المردي
مؤنس المردي
الخميس 26 مايو 2016

في تونس الخضراء كانت محطتي، وبين أهلها الطيبين المثقفين كانت زيارتي الأولى لهذا البلد الجميل المتسامح والغني بالمناظر الطبيعية الساحرة والعاشق لإخوانه العرب، والذي يطلق عليه الكثيرون “روضة السياحة” في منطقة المغرب العربي، حيث المتاحف والمباني الأثرية والامتزاج البديع بين جمال الطبيعة وعبق التاريخ، واكتساء الصحراء برداء الخضرة في لوحة رائعة تنبثق منها رائحة الياسمين العطرة.
هذه الزيارة أتاحت لي الاقتراب أكثر من النموذج التونسي الذي قام بعد “الثورة”، وزادت قناعتي بأن هذا النموذج يستحق دراسة معمقة ومتأنية؛ نظرا لما أظهره من إيثار للمصلحة العامة، وما تمتع به من رقي وتقدم ووطنية جنَّبت تونس الكثير من الاضطرابات التي كانت مصيرًا لشعوب عربية أخرى نتمنى لها من كل قلوبنا أن تتجاوزها وتستعيد عافيتها ورونقها.
نعم، لقد استطاع الإخوة في تونس العبور بسفينة بلادهم إلى بر الأمان إلى حد كبير وسط بحر هائج من المشاكل والقلاقل التي عصفت بدول ما يسمى بالربيع العربي التي استلهمت تجربة تونس “الثورية”، ولكن ورغم ذلك، اكتشفت أن هناك أشياء مازالت مفقودة وآمالا مازالت معقودة، حيث سنحت لي الفرصة خلال زيارتي الالتقاء بعدد من التونسيين من طبقات متباينة وتنتمي لمهن مختلفة، فمنهم المثقف والمفكر، ومنهم الصحفي والإعلامي، ومنهم أيضًا سائق التاكسي وعامل الفندق، فكانت حواراتي معهم حول ما يدور في بلدهم وما يشغل بالهم، وما هي طموحاتهم وأحلامهم، وتصدر السؤال عن وضعهم بعد الثورة هذه الحوارات، وخرجت بإجابات تستحق التمعن فيها، والتأمل في معانيها، والتبصر في دلالاتها.
عند حديثي مع الأكاديميين والصحافيين ومن نطلق عليهم النخب المثقفة، كان رأيهم أن الثورة زادت كثيرًا من مساحة حرية التعبير والرأي لمستويات غير مسبوقة، فكان ذلك في تعداد المزايا التي تحصلوا عليها، لكنهم على الجانب الآخر يحملون هاجسا ثقيلاً، وهو هاجس الأمن الذي أصبح مهددًا من قبل إرهابيين يأتون من خارج تونس لزرع الفتنة، وشق الصف التونسي، وهو ما يحول دون الاستمتاع بالحرية المتاحة في مجال الفكر والتعبير.
أما أصحاب المهن الأخرى، ومن بينهم سائق التاكسي وعامل الفندق وعامل المطعم والمدرب الرياضي، وغيرهم، فكان واضحًا جدًا في أحاديثهم مدى القلق على الأمن في تونس، خصوصا أن أرزاقهم تتأثر سلبًا عند تعرض البلاد لأي حادثة إرهابية لما لها من تأثيرات سلبية خطيرة على السياحة في البلد، وهي مصدر رئيسي للدخل في تونس، حيث تجتذب تونس الملايين سنويا الذين يقصدونها للسياحة.
سألت هؤلاء عن رأيهم في السياسة، فقالوا لا بأس بها، ولكن الأهم لدينا هو الأمن، فنحن نبحث عن الاستقرار الأمني الذي يؤدي بطبيعة الحال لاستقرار الاقتصاد وتحسين الأحوال. من أوجه الاتفاق الأخرى بين جميع هؤلاء القول إن الأوضاع في السابق كانت أفضل كثيرًا من ناحية الاستقرار الأمني، وأنهم يفضلون الأمن على التغيير السياسي، حيث شعرت بنبرة بها حنين إلى الماضي، حيث الأمن والأمان، وتلمست ألمًا لافتقاد الاستقرار الذي كانوا ينعمون به في السابق، وتيقنًا بأن الثورة رغم ما أحدثته من بعض التطورات، إلا أنها لا تغني عن الاستقرار الأمني، فرغم أن تونس هي الدولة الوحيدة فيما يسمى بدول الربيع العربي التي تشهد استقرارًا أمنيا، لكنهم مازالوا يقولون إنهم كانوا في السابق أفضل مما هم عليه الآن.
عندما كنت بصالة المغادرة في مطار تونس وقبل صعود الطائرة المتوجهة لمملكة البحرين، التقيت مواطنا جزائريا وآخر ليبيا كانا يتحدثان عن الأوضاع السياسية وسألاني: من أين بلد أنت؟ فقلت من البحرين، فقالوا: “الله يديم عليكم هذا الأمن، والحمد لله البحرين نفذت”، فسألتهما: هل تتابعان ما يحدث في البحرين؟ فقالا لي: “لقد سمعنا بما حدث فيها، إلا أن الأحداث التي ألمت بدولنا قد أنستنا أن نواصل المتابعة”، ثم قالا بحزن وحسرة: “نحن نتكلم عن الربيع العربي، لقد ضحكوا علينا”، وعند ذلك ضحكت أنا أيضًا، وصدقت على قولهما قائلاً: “نعم: ضحكوا علينا”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .