العدد 2453
الجمعة 03 يوليو 2015
banner
المجانين وحصار الذاكرة مأمون شحادة
مأمون شحادة
الجمعة 03 يوليو 2015

“نحتاج لكثير من الجنون حتى نستطيع العيش مع هذه الأوضاع، فالمجانين هم الذين صمدوا، والعقلاء هم الذين فروا واستغلوا الفرص، فأنا أنتصر لهؤلاء المجانين”. كلمات قالها الكاتب والروائي اسامة العَيَسَة في لقاء متلفز حول تقاسيم وإيماءات روايته الشهيرة “مجانين بيت لحم”.
دخولاً الى عالم هذا الانتصار الموضوعي، نحتاج لقليل من المحاورة الذاتية بين الـ “أنا” والـ “أنا” لنُعَبِر عن المشهد، الفريد من نوعه، بطريقة تخترق ممرات الزمن الضيق وإشراقة شمس الأبجدية الأولى بقاموس يُفسر اسماء باكورة الزنزانة الوسطى وصولاً الى بوابات ضوء القمر.
كانت الساعة تقترب من مشارف الرابعة والنصف عصراً، ورائحة القهوة تملأ افق المكان المحاط بمحددات محاورتي الذاتية، التي تخلو من علامات الترقيم ونرجسية الزمان، وبجانبي قارورة ماء جاثمة على سطح البحر وخرير الانهار، إلا أن انسكابها طار الى غير موعد، وحنين العودة الموشح بخيوط الشمس وعبق التراب مازال منتظرا وشاح الفصول الأربعة.
الربيع كعادته يلهمني “الرواقية” لقراءة الروايات والغوص بين سطورها مروراً بالصيف والخريف والشتاء، فتلك الفصول تشبه جسد “مارسياس” المسلوخ، وذاكرة “سون تزو”، وكلمات الشاعر العربي: “عيناك حلمي الذي سيكون.. كبيراً كما يحلم المتعبون”.
أثناء رحلة الإلهام والتأمل اعشق سماع موسيقى صفحات الكتاب وهي تتطاير في فضاء عقلي، لأنها تعلمني ان الصمت القاتل يساوي كفة القانون الأعوج، واعوجاج المعاني السياسية يعادل الانحراف الممشوق  بالتقمص الإقصائي، وترشدني كذلك الى الجذر الحقيقي لمصطلح البيت الثقافي الذي يبحث عن ذاته المختطفة بين اروقة قاموس أبجدياتنا اللغوية و”دهلزة” المكان، فحينما تحاصرني الذكريات اجلس وحيداً لأدق ناقوس من يحاصرني.
رغم هذا الناقوس الممشوق بمرارة “الإيغوسنترية” والأمل أتذكر تبرير العقلاء تجاه زهرات وصفت بالجنون استهتاراً وهي تنتظر الطيران شموخاً للتحليق في فضاء “اليوتوبيا” لإزالة التناقضات بين الـ “أنا” والـ “آخر”.
السمو في هذا الفضاء يبصرك حقيقة صراع الأضداد ويدركك عنجهية الاستعلاء الفكرية التي أشهرت أنيابها وانقضت على مضاجع من أرادوا الثقافة عنواناً، لاسيما أن الحقيقة بدت خجولة نائمة لا تدري ما الذي حدث وكيف كتبت معالم الجنون وتخمينات العقلاء.
مازالت نسمات الرياح تداعب أوراق الشجر “حفيفاً”، وأنا مازلت أرتشف فنجان القهوة “فراغاً”، أدركت حينها أن هامش الهامش ينبض من جانب الجانب، وأن “شجرة الحنضل” و”صوامع الانعزال” و”الرواسب التاريخية” تحتاج مشكاة من الجنون، لإعادتها الى “البيت الثقافي السليم” الخالي من عقلاء يتقمصون الشكل الزماني والمكاني.
معيار هذا البيت يبصرك ورق التوت المتساقط عن عورات من استباحوا الأرض بحروبهم الاقصائية. حروب أعلنت القصاص من ثيمة صاغت الأفكار بقالب مبتعد عن أزيز زخات الموت ورائحة دخان من يدعون “العقلنة”.
توقفتُ قليلاً عن محاورة الـ “أنا” لأخاطب بها الـ “آخر” وسيل الأسئلة مازال متسللاً الى جوف افكار بيت القصيد وصيرورة الكلمة: هل خطفت الذات؟ أم أن البشرية تغولت في مستنقع التقسيم والتمييز جاعلة من نفسها فريسة لنفسها؟ ولماذا يعلن العقلاء حروبهم ويدمرون الأرض تحت مسميات الأمن والأمان؟ إذا، من هم العقلاء؟ ومن هم المجانين؟
تَخرُج الاجابة واضحة المعالم بقلم من صاغ سطور عبقرية “مجانين بيت لحم”: “المجانين هم من حافظوا على الذاكرة، والعقلاء هم المستعدون للتفريط، حتى لو لوح لهم العدو بِوَهم”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية