العدد 2453
الجمعة 03 يوليو 2015
banner
الفيلسوف هيروقليطس خالص جلبي
خالص جلبي
الجمعة 03 يوليو 2015

نذكر الرجل بعد موته بآلاف السنين لأنه كان من وصف فظاعة الحرب على الشكل التالي: الحرب هي أم كل الأشياء، ولكن فلسفته تجاوزت والحمد لله إطار الحرب إلى المحتوى الكوني فأضاف: ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين، والكون يقوم على الصراع، الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم، وهناك صيرورة متدفقة في الكون، وكل يوم هو في شأن.
هذا ما قاله الفيلسوف اليوناني “هيروقليطس” الذي عاصر قبل موته أحداثاً جساماً انتهت على حد السيف.
فقبل أن يموت بسنتين، قام الملك الفارسي “كزركسيس” باجتياح بابل، بعد حدوث تمرد فيها، ليدمرها تدميرا، ومعها تمثال الإله “مردوك”، الذي كان يتعبده البابليون، فدفنهم مع كرامتهم رمادا حرقا وقتلا.
وقبل ذلك بثماني سنوات، شهد حملة الملك الفارسي “داريوس” عام 490 قبل الميلاد، على بلاد الإغريق، التي انتهت بمعركة “ماراثون”، وهزيمة داريوس برا وبحرا، ونجت العبقرية اليونانية.
وقبل أن يموت هيروقليطس، شهد الاستعدادات الضخمة، لحملة جديدة على بلاد الإغريق.
وفي عام موته 480 قبل الميلاد، شهد الزحف الأعظم، على بلاد اليونان التي انتهت مرة أخرى بهزيمة منكرة في معركة سلاميس البحرية.
والرجل كان يعيش في آسيا الصغرى، تركيا الحالية في مدينة “إفسوس”، ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في مدينته.
وأهم ما تركه الرجل من أفكار كانت الإشارة إلى ثلاث آفات تطفئ النار العقلية: النوم والغباء والرذيلة.
وحسب وجهة نظره فإن الكون يقوم على دورة طبيعية، وتحكمه قوتان: الحب والكفاح. وكل شيء ينشأ من هذا التنافس.
وما نراه من تباين الأشياء يرجع في النهاية إلى هذا الصراع، الذي يوحد الأضداد في النهاية.
وكان الفيلسوف يرى أن الكون يقوم على صيرورة متدفقة؛ فلا يبقى شيء كما كان، حتى ولو وضع الإنسان قدمه في النهر؛ فلن يكون هذا النهر هو... هو كما كان قبل لحظة.
وهو محق من هذا الجانب، التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير والثابت، كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود.
وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين”.
ولكن ليس معنى هذا أن تندلع الحروب، ولا يعني التدافع القتل بحال.
ويجب أن نفهم أن الرجل عاش في زمن بئيس، سيطرت فيه الحروب، وجرت الدماء أنهارا، بدون توقف، وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها، لو اجتاح الفرس بلاد الإغريق.
ويذهب البعض إلى أن نجاة بلاد اليونان من الاحتلال الفارسي، مهد الطريق لنشوء عبقرية بلاد الإغريق، التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو؛ فلا يمكن لأي إبداع أن يأخذ طريقه وسط الإكراه.
ومنه يقول هيروقليطس، إن الحرب تحدد مصائر الناس، أن يكونوا سادة أو عبيدا. ويجب فهم هذا في ضوء الظروف المرعبة من الحروب المتتالية، التي عاشها الرجل، ولو بعث في أيامنا لأصيب بالدهشة، وهو يرى النزاع الفظيع الذي اندلع بين الروس والأميركيين، في سباق الموت، نحو التسلح النووي، إنهم بدأوا يطبقون مبدأ هيروقليطس، على نحو مثير، فتتحد الأضداد من جديد، لينطلقوا بمشروع عملاق لبناء محطة فضاء عالمية.
وهذه النتيجة سيصل لها العرب ربما في القرن القادم كما جاء في الحديث، رفع القلم عن أربع: عن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحلم ويبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن السكران حتى يفيق.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .