الذي يجب أن يدركه صاحب الوظيفة صغيرة كانت أم كبيرة أنها مسؤولية وتكليف لا تشريف، وأمانة لا يجب التفريط بها وأنه محاسب أمام الله قبل الناس. وكنا نتمنى أن يكون هناك إقرارٌ بالذمّة المالية لمن يتولّى المسؤولية منذ بداية عهده، وكشفٌ لما أنجزه من مشاريع وما أخفق فيه. وإلا ماذا يعني أن يطلق مسؤولٌ بإحدى الوزارات وعودًا بمشروعات ستنفذ خلال مدة زمنية محددة بيد أنّ المواطنين لا يفيقون إلا على فقاعات كلامية. أمّا المسؤول فإنه يلوذ بالصمت ولا يتجرّأ حتى على إبداء أي مبرّر. البعض ممن بقي في المنصب ترسّخت لديه عقدة بأنه فوق المحاسبة ويحق له التصرف بما يخالف القانون. إنّ نقطة البداية لأي عهد جديد لأي مسؤول تعني بداية طموح ورؤية للمستقبل. وكان رائعًا إشارة أحد المتقلدين للحقيبة الوزارية إعلانه بأن (سأبدأ من حيث انتهى الآخرون). وبالرغم من التوجيهات الصادرة من سمو رئيس الوزراء الموقّر لمن هم في موقع المسؤولية وبالأخص الوزراء ومن في حكمهم، بضرورة تقبّل النقد البنّاء من الصحافيين والكتاب، إلاّ الملاحظ أنّ هؤلاء يضيقون ذرعًا بما ينشر في الصحافة. هذا الشعور تولّد لديهم نتيجة لعدم تقدير دور الصحافة وسوء فهم لرسالتها. ونستثني بالطبع قلّة منهم من تولي أهمية للكلمة الناقدة لهموم المجتمع وقضاياه، ومن ترى أنّ مهمة الكاتب هي مكملة لما تنهض به أجهزة الدولة من مهام ومسؤوليات. إنّ المسؤول في أي موقع كان حين يعجز عن القيام بالمهمة المسندة إليه فإنّ عليه الانسحاب من موقعه لمن هم أكثر جدارة، كما هو الحال لدى بلدان عدة من الشرق والغرب. فالمسؤول اليابانيّ مثالاً حين يفشل في أداء ما يناط به من مهمة كبيرة أو صغيرة فإنه يقدم اعتذاره الشديد أمام مواطنيه، وقد يضطر البعض منهم إلى الاستقالة الفورية متيحًا الفرصة لآخرين أجدر منه بحمل المسؤولية. هذا التقليد سائدٌ في جميع الأقطار باستثناء عالمنا العربيّ الذي يبقى فيه المسؤول في موقعه وإلى ما شاء له وضعه أن يبقى. ليس هناك على امتداد الأرض العربية من يعترف بالفشل وكأنه خلق مبرّأ من العيب والنقص. وليس هناك من لا يدرك السر الكامن وراء تشبث البعض بالمنصب نظرًا لما يدره عليه من امتيازات مادية ومعنوية حتى لو كانت على حساب الأمانة والأخلاق والقيم. الذي يبدو لنا جليًّا أنّ العربيّ تغيب عنه ثقافة الاستقالة أو حتى المبادرة بالاعتراف بالإخفاق، وهذا ما يفسّر لنا استمراره في منصبه بالرغم مما ألحقه به من تشويه وأضرار. من منّا لا يتذكّر على سبيل المثال أنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما أعلن وبشجاعة لا مثيل لها في تاريخنا العربيّ أنه قدّم استقالته بعد نكسة حزيران. والحقيقة أننا لم نشهد في تاريخنا المعاصر أنّ هناك مسؤولاً بحجم زعيم أو وزير قد أقدم على الاستقالة. الدلالات التي تنطوي عليها استقالة أي مسؤول تعني أنه اعتراف بعدم القدرة على النهوض بالواجب الوطنيّ، كما أنها تعني تغليب المصلحة العليا على المصالح الشخصية، وفي الوقت ذاته تمثّل قمة الإخلاص والتفانيّ لأنفسهم أولاً ولمواطنيهم ثانيًا.
المفارقة الصارخة أنّ هناك هيئات ومؤسسات رسمية شهدت فسادًا وتجاوزات جاءت مفصّلة في التقارير الصادرة من ديوان الرقابة المالية والإدارية على مدى سنوات، وبالطبع فإنّ من تقع عليه المسؤولية هم من في قمة الهرم بهذه المؤسسات، لكننا في المقابل لم نشهد مساءلة أحد منهم.