العدد 2670
الجمعة 05 فبراير 2016
banner
العراق.. الغفران من حقّ الضحيّة عبدالرحمن سليمان
عبدالرحمن سليمان
الجمعة 05 فبراير 2016



الدارجة العراقية تسمّيها “حوبة”. قد تكون هي الأقرب للمعنى العربي الفصيح من حيث الاستخدام الشعبي: تحمّل الإثم. أرواح الضحايا الذين لم يغفروا بعد، تتلوّى عالقة بين السماوات والأرض. حيرة العدالة الدنيوية حين تطول أكثر ممّا ينبغي تُحيّر معها عدالة السماء. الحلول مؤجّلة وخزّانات الدموع فاضت على آخرها، والانتظار ملّ من صبر المنتظرين. شهيق الآلهة وزفرات الوعي الشقي تذروها الرياح العابثة. الريح تسخر منها بلؤم واضح. قصر الحاكم كسكّ العقرب وكأفواه محازبيه. حين تضحك تهرب من بين أسنانها العناكب. أحزاب الحكم تتحكّم في رسائل الضحايا المهملة التي بلا عناوين وبلا أختام رسمية. رسائل سوف لن تصل أحدا لأنّ البريد في الضمير والحقّ أخرس في هذا الزحام.
 اللوّن الأصفر. لون الموت والغيرة وطلاء مكاتب الأحزاب ودوائر المخابرات. لون النميمة والسحنات الرسمية ولون الهاوية السحيقة وعيون الوحوش. أرض السواد لم تكن تعرف الشحوب. الخضرة والنخيل كانت دوما أمّهات للفقراء. الفقر علّمهم علم الصبر والانتظار وأبجديات الدعاء ومعاني الأمل والإيمان الخرافي بالغد المشرق. حتّى الأحزان العميقة لم تكن في سابق عهدها صفراء اللون. كان لها في الأغنية والموّال العراقي لون آخر. لون غامض لا يعرفه الطيف الشمسي. ينشد لحنا منسيا يأتينا من بعيد. من الراحلين والمنسيين. من عازف أعمى يخرج من بطون التاريخ. من تاريخ مضى دوّنه سجلّ الانفعالات فقط، وتركه وحيدا كالأصداف على الساحل. ينتمي لتاريخ ما وراء تاريخ المظالم القديمة والمتراكمة التي ما عثرت يوما على حوبتها. الرافدان الشاهدان يختزنان الأسرار ولا يبوحان بها سوى للثوار والأنبياء والمتصوفة والشعراء. المياه المقدّسة لا تكذب ولا تنسى شيئا أبدا.
حوبة اليتيم والبنت المغتصبة والمال المسروق والماضي المُباع والحاضر المُنتهك والمستقبل المجهول. حوبة الأطفال الذين رقدوا في أعماق البحار الغريبة. وحوبة أحلام الغرباء والمهاجرين والمنفيين الذين ظلّت عيونهم تحدّق قرونا في القمر وترى فيه صورة للعراق البعيد. العراق الجديد الذي لم يصبح جديدا. حوبة القتلى المجهولين الذين لم يقتصّوا من القاتل كما ينبغي أن يكون عليه القصاص. أموات بلا أسماء ولا هوّيات ولا قبور. الأرض وحدها هي التي سوف تتعرّف على ولادات الغياب التي لم يكن حاضرها وحياتها ومسارها وميلادها وموتها سوى أرقام باردة لا تعرفها سوى أمهاتهم الموّشحات بالسواد. الأسود يمتصّ كلّ الالوان إلّا لون الحوبة ولون الأمل. الأعراس الحقيقية تسكن في الجزر التي لم تكتشف بعد. كلّ ما عدا ذلك هو مهرجان مكرّر للذئاب لا يقول لنا شيئا أكثر ممّا نعرفه وعرفناه.
الإثم سيلاحقهم وسيقضّ مضاجعهم في اليقظة والمنام. سيُريهم ما كان مخفيا تحت معاطف الرياء. وسيلاحق خطواتهم ويقتفي آثارها حتّى نهايات العمر. إثم الضحية المسكونة بجراحها تحدّق كلّ يوم بسكاكين القتلة. تدقّ عليهم الأبواب الموصدة. “تُغري الوليد بشتمهم والحاجبا”. إيلاف.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية