العدد 2604
الثلاثاء 01 ديسمبر 2015
banner
الشيخ الذي أحببناه... والنبيل الذي فقدناه عيسى بن علي.. رجل دولة من طراز مهيب منصور حسن بن رجب
منصور حسن بن رجب
الثلاثاء 01 ديسمبر 2015

يعتبر الشيخ عيسى بن علي آل خليفة رحمه الله واحدا من رجالات الدولة الرواد وأحد التنفيذيين التكنوقراط الذين ساهموا في تأسيس وتطوير مؤسسات الدولة وأجهزتها وعاصروا البدايات الأولى لتأسيس مؤسساتها وتكريس أجهزتها وتدوين دواوينها. والذين عملوا معه في مختلف الوزارات والدوائر التي حمل حقائبها على مدى ربع قرن من الزمان تقريباً يجمعون على رجل دولة مهيب، ومسؤول تنفيذي وسياسي من طراز رفيع، ووزير ومدير حظي دائماً باحترام وتبجيل مرؤوسيه وتقدير المجتمعات للوزارات والدوائر التي شغل رئاستها.
إنها السمات التي يُجمع الذين عرفوا المرحوم الشيخ عيسى بن علي، على أنها من صميم سجاياه، ومن أظهر صفاته وأكثرها أصالة، ففي الوزارات التي شغلها بدءاً من رئاسته ديوان الخدمة المدنية بدرجة وزير في العام 1987 إلى أن اختاره صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة مستشاراً أثيراً للشؤون النفطية والصناعية، ظل الشيخ عيسى يجلب معه إلى المناصب التي شغلها، حساً عميقاً بالولاء، وانغماساً مثابراً بالتجديد والتحديث، مع إدراك نبيل لمسؤوليته ذات الخصوصية كوريث لتقاليد عائلة من صفوة العائلات الحاكمة في المنطقة.
وكتجربة شخصية ممتدة مع رجل دولة، ورثت احترامي وتبجيلي له مما كنت أرصده من احترام الوالد ومجايليه له وتقديرهم نبله ورفعة أخلاقياته وسجاياه. فلا يمكن لشهادتي في المرحوم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة أن تكتمل إلابالاعتراف بمحبة شخصية عميقة لرجل ما عرفت فيه الا النبل الأصيل والرفعة الوازنة والبقاء على أهبة الخدمة لكل من يطرق بابه الواسع والمفتوح دائما.
البدايات الأولى للشيخ عيسى بن علي في العمل الوظيفي كانت أقرب إلى البساطة، وارتقاء السلم الوظيفي بهدوء وصبر ومثابرة، فمن مساعد لرئيس العمل الى رئيس للعمل في العام 1968، إلى مدير لإدارة السجل التجاري في العام 1970، إلى مساعد لشؤون الهجرة والجوازات بوزارة الداخلية في العام 1975إلى ولوج باب المسؤوليات الكبرى من بابها الواسع وحيزها الأكثر ملامسة لشؤون المواطنين والدولة على حد سواء.
وفي هذه الوظائف والمناصب التنفيذية والسياسية جميعها تميز المرحوم الشيخ عيسى بأسلوب منضبط، وحرص على الدقة، وقدرة على التعبير عن قناعاته بكلمات بسيطة ولكن لا تنقصها ومضة الحزم والمثابرة. وباختصار،كان موظفاً عاماً بضمير حي، ومسؤولا حكوميا بعقلية تنفيذية؛ يملك طابعاً من الجرأة ونمطاً من الاصرار العميق على تحقيق طموحاته الشخصية من غير استخدام دالته كشيخ من عائلة حاكمة.
ارتبط اسم الشيخ عيسى بن علي تاريخياً بتطوير ديوان الخدمة المدنية في العام 1982، حين أُنيطت به مهمة وضع السياسات الخاصة بالتوظيف، وتحديد حاجة الجهاز الحكومي من القوى العاملة، وإعداد البرامج الضرورية لرفع مستوى الكفاءة والإنتاجية بين العاملين في القطاع الحكومي؛ فكانت محطة لامعة في حياة مهنية حافلة.
وفي العام 1987، ونتيجة النجاحات والإنجازات التي حققها الشيخ عيسى رئيساً ومؤسساً لديوان الخدمة المدنية، صدر المرسوم الأميري بترقيته إلى درجة وزير، مع المحافظة على منصبه رئيساً لديوان الخدمة، ليتابع مشروع إعادة هيكلة الديوان وتوسيع مظلته، وتركين أجهزته وإداراته المتعددة، التي ساهمت بتكريس مكانة مرموقة للبحرين في مقاييس تنمية القوى البشرية، وجعلتها تحتل موقعاً متقدماً في تقارير التنمية البشرية التي صدرت آنذاك، فمثلت أولى الشهادات الدولية المرموقة، على حصافة المشروع التنموي الكبير لصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء.
غير أن الشيخ عيسى يصر دائماً على أن ما حققه في ديوان الخدمة، ما كان له أن يصبح حقيقة واقعة ونهجاً مستداماً ومبكراً جداً في تلك المرحلة، لولا ما توفر له من دعم القيادة أولاً، ومن مساعدة مجموعة من الخبراء العالميين من الجامعات الأميركية والاوروبية وثلة طيبة وواعدة من الخبرات المحلية الناجزة.
المحطة الثانية، كانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي تسلـّم الشيخ عيسى بن علي حقيبتها في العام 1993، غير أنها كما يبدو كانت محطة انتقالية، حيث لم يلبث الشيخ فيها سوى سنتين، انتقل بعدهما إلى وزارة النفط والصناعة، لتلتصق هذه الوزارة باسم الرجل، وتكون المحطة الأكثر أهمية في تاريخ مهني ممتد ومسيرة سياسية فذة. تسلـّم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حقيبة وزارة النفط والصناعة في العام 1995، وعندما كان سعر برميل النفط 21 دولاراً، وترك الوزارة في العام 2005، وبلغ سعر البرميل 78 دولاراً، وبين هذين التاريخين، كان العالم يتعرض لتغييرات جذرية في السياسات والاستراتيجيات، غير أن النفط ظل هو العامل الأكثر تأثيراً في ذلك كله، وعندما تتنقل اليوم في البحرين، وتُطالع كل هذا العمران والمشاريع الإنشائية والخدمية التي تملأ النظر، فإن ما تـُطالعه حقاً هو مال النفط، الذي تم تحويله إلى مشاريع تنموية وخدمية مُهمّتها أن تـُؤمِّن للناس مستوىً عالياً من الرفاه والحياة الكريمة.
وفي بلد تعتمد موازنتها على النفط بنسبة تزيد عن 75%، فإن الوزارة التي تكمن وراء توفير الأموال اللازمة لكل هذه المشاريع، هي وزارة النفط، التي أدار الشيخ عيسى بن علي شؤونها على مدى عقد كامل؛ كان المسؤول عن نحو80% من صادرات الدولة، وعن ثمانية دنانير من أصل كل عشرة دنانير من مداخيل المملكة، فيما مثلت مسيرته في الوزارة، الشهادة الأفضل على شخصية رجل دولة من طراز رفيع، وعبّرت عن دخيلة روح مهابة، وعقلية فذة، ومَلَكة سياسية وإدارية مصقولة بعناية، قهو رجل دولة من رعيل آمن بعروبة البحرين، وأيقن قدرتها على امتلاك قرارها بيدها وبعقلية وسواعد أبنائها، فعرفت شركة بابكو في عهد ولايته على حقيبتي النفط والصناعة أول مدير عربي لها، وكذلك شركة ألبا.
“وزارة النفط وزارة صعبة المراس”، هكذا وصفها الشيخ احمد زكي اليماني في بعض أحاديثه لجفري روبنسون. غير أنها بالنسبة للشيخ عيسى كانت ميداناً لسلسلة من التحديات، ومختبراً لمحفظة مترعة بالإنجازات، ففي عهد ولايته على هذه الوزارة، أنجز سلسلة من البرامج الطموحة والخطط النهضوية، هدفت إلى تحديث صناعة النفط، وإقامة العديد من مشروعات التوسعة والتطوير، كانت درة عقدها في العام 1997، حين قاد جهود حكومة البحرين لامتلاك مصفاة البحرين بالكامل عبر شراء حصة شركة كالتكس، وهو الأمر الذي ترتب عليه تعيين اول مدير بحريني للشركة. وكما فعل الشيخ عيسى في شركة بابكو، فقد سعى لتعريب وبحرنة شركة ألبا عبر تعيين أول مدير بحريني لها هو عبدالكريم سليمي. 
في العام 2005 اختاره صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء مستشاراً للشؤون النفطية والصناعية، فكان هذا الاختيار من عميد النهضة الخبير بالرجال، شهادة أخرى تضاف إلى مسيرة الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، كرائد من أبرز رواد قطاع النفط في المنطقة، ورجل دولة مرموق اكتنز سجله العملي بالخبرة والحصافة والانجازات، واشتملت شخصيته على قدر وافر من المروءة والهيبة.
رحم الله الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وأسكنه فسيح جناته. وألهم أهله وذويه وأنجاله وأسرته الصبر والسلوان، فالرجل فقيد وطن وفقيد دولة.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية