العدد 2329
الأحد 01 مارس 2015
banner
الديمقراطية والحداثة... وجهان لعملة واحدة د. نعمان الموسوي
د. نعمان الموسوي
الأحد 01 مارس 2015

في الوقت الذي تكافح فيه الشعوب والأمم من أجل سيادة الديمقراطية في أنظمتها السياسية المعاصرة، يبرز التساؤل الكبير عمّا إذا كان مُمكناً التوصّل إلى الديمقراطية في الدول النامية أو تلك التي تعتمد الاقتصاد الريعي أساساً لحياتها دون تغيير الثقافة السياسية السائدة، ودون الانتقال إلى الحداثة السياسية، وما يتطلّبه ذلك من تغييرٍ جذريٍ في الرؤى والممارسات.
وبمراجعة الأحداث التاريخية المهمة، يمكننا أن نلاحظ أن الاتحاد السوفييتي السابق كان دولةً عظمى دون شكٍ، لكنه لم يُقيّض له الدخول إلى عالم الحداثة كما دخلته دول أوروبا الغربية، بما فيه من عقلانيةٍ وعلمانيةٍ وديمقراطيةٍ، فقد ظلّت ممارسات السلطة السوفيتية بعيدةً عن قواعد اللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وقدّمت الثورة البلشفية ما يعرف بالشرعية الثورية على الشرعية الدستورية وحكم القانون، اللذين تطوّرا وتراكما في الغرب، مع أن الاتحاد السوفيتي كان مشهوداً له بالتقدّم الصناعي والتكنولوجي، بل وسبق الغرب في ارتياد الفضاء. في ذلك الحين، ساد في الاتحاد السوفيتي نمط شمولي في الحكم، ولم يتم الاهتمام بالتطوّر المتناسق للاقتصاد الوطني وفق مقتضيات النظام الاشتراكي، بل بأن يؤدِّي التطور إلى خلق الأرباح، وبأن تُساق تلك الأرباح إلى شريحةٍ معينةٍ في المجتمع، إلى المدراء وكبار موظفي الدولة والمؤسسات الاقتصادية، أيّ إلى الفئات المهيمنة على وسائل الإنتاج. لذا صار النمو الاقتصادي يصب لصالح اقتصاد رأسمالية الدولة التي برزت بقوّة بعد سقوط النظام الاشتراكي.
ومع سيطرة الحكم الشمولي، وغياب الآليّات الفاعلة لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل الأزمات البنيوية، واستحكام البيروقراطية في جميع مفاصل الدولة والحزب والمجتمع السوفيتي، تباطأ تطوّر مؤسّسات المجتمع المدني الحديث، وتضاءل مستوى الحراك الاجتماعي، وتقلصّت مساحة الديمقراطية والحريّات وحقوق الإنسان، لذا بات الولوج إلى عالم الحداثة ضرباً من الحلم الآيديولوجي، والتضليل الفكري، وهنا تتضح بجلاءٍ العلاقة الوثيقة بين الحداثة والديمقراطية. وأتصوّر أن الصعوبات التي رافقت محاولات الاتحاد السوفيتي في الانخراط في منظومة الحداثة الغربية لا تزال تواجهها روسيا اليوم بعد أفول التجربة الاشتراكية، رغم سعيها للتقارب والتعاون مع الدول الرأسمالية المتقدمة، وتجاوز إخفاقات الماضي، والاندماج في النظام العالمي الجديد.
أعتقد أيضاً أن مسألة العلاقة بين الديمقراطية والحداثة تمثّل أحد العوامل المركزية التي قادت إلى هيمنة القوى المتشدِّدة على المشهد السياسي العام، بغض النظر عن طبيعة المذهب.
فصحيح أن القوى والمنظمات - التي قامت على أًسُس ومنطلقات تفتقر إلى الصفة الوطنية الجامعة - تنشد الديمقراطية من حيث المبدأ، وترفع شعارات تشي بأنها تكافح من أجل الاستقلال الوطني والحرية وحقوق الإنسان، لكن موقفها من الحداثة يفضح تلك الشعارات، فتراها تخوض معركةً على جبهتيّن متوازيتيّن: ضد الأنظمة الحاكمة التي تعتقد أن ممارساتها لا تتوافق مع مقوِّمات الدين الإسلامي وتعليماته السمحاء، وضد قوى الحداثة؛ ويبدو أن معركتها مع هذه القوى مؤجلة للحظة الاستيلاء على الحكم، لكنها تختبئ وراء ممارساتها السياسية الملتوية ضدها.
وعلى هذا الأساس، أعتقد أن تجاوز إشكالية العلاقة بين الديمقراطية والحداثة يتطلب الوعي أولاً بالارتباط الذي لا ينفصم بينهما كوجهيّن لعملةٍ واحدةٍ، فنحن لا نستطيع أن نقنع الجماهير بأننا نطمح إلى الديمقراطية التي تتطلع إليها بالفعل دون أن نؤمن إيماناً عميقاً بأن تحقيق هذا الطموح مشروط بقبولنا لمفاهيم وقيم التمدّن والعقلانية، وسعينا لبناء مجتمعٍ تتراجع فيه العصبيّات القبلية والمذهبية أمام ثقافة العمل الجماعي، والحوار، والديمقراطية، والحداثة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .