العدد 2299
الجمعة 30 يناير 2015
banner
لماذا ينخرط الأجانب في صفوف التنظيمات المتشدِّدة؟ د. نعمان الموسوي
د. نعمان الموسوي
الجمعة 30 يناير 2015

أتصوّر أنه لا يُوجد حتى هذه اللحظة تفسير مقنع لانخراط المقاتلين الأجانب، وبالذات بعض مواطني الدول الرأسمالية المتقدمة، كالولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وغيرها، في صفوف التنظيمات المتشدِّدة التي نشأت بصفتها تعبيراً عن رغبةٍ جماعيةٍ عارمة في المنطقة العربية باسترجاع الخلافة الإسلامية، والعودة إلى أصول “الدين الحنيف”!.
لنلاحظ قبل تحليل هذه الظاهرة الخطيرة فعلاً أن المنظمات المتطرفة التي قاتلت من أجل إنهاء الوجود السوفيتي في أفغانستان كانت تضمّ في صفوفها مقاتلين من الأفغان بالدرجة الأولى، كونهم كانوا يقفون في طليعة الفئات الشعبية المطالبة برحيل القوّات الأجنبية “المحتلة”، رغم أن الأخيرة زعمت أنها دخلت إلى البلاد بطلبٍ مسوّغٍ من السلطة الشرعية في ذلك الحين.
لنلاحظ هنا أيضاً أن هذا المواطن الأجنبي عاش في مجتمعٍ مدنيٍ متطوِّرٍ، وتشرّب الفكر الليبرالي والمبادئ والقيم المنادية بالحرية والعدالة والمساواة، وتمتّع بكل الحقوق المدنية والشخصية، وجنى ثمار العيش في البحبوحة الرأسمالية، حيث استطاع أن يضمن له عملاً مرموقاً، ودخلاً عالياً، وحياةً هانئةً قياساً بأقرانه في الدول النامية الذين يكابدون شظف العيش.
ماذا تغيّر إذا ليصبح مقاتلاً في صفوف المنظمات المكافحة في سبيل “تسيّد المبادئ والأفكار الإسلامية في أرجاء الكرة الأرضية”؟ أعتقد أن هناك سببيّن أساسيّين وراء نشوء الظاهرة موضع البحث.
السبب الأول، في رأيي، يعود إلى حالة الاغتراب التي يعيشها المواطن في البلدان الرأسمالية عامةً، والغربية على وجه الخصوص، وهي بالمناسبة ليست قصراً على هذه البلدان تحديداً، فقد كان المواطن في الدول الاشتراكية السابقة مثلاً يعاني أيضاً الاغتراب بسبب غياب الديمقراطية السياسية هناك بصورتها الليبرالية المتجددة دوماً، فتلك الأنظمة نفسها خلقت وعياً اجتماعياً وثقافياً متقدماً عبر تطوير التعليم ودعم الثقافة والفنون والتكنولوجيا، لكنها لم تعمل بصورةٍ متكافئةٍ على تطوير نمط العلاقات الاجتماعية – السياسية القائمة، ووضع حد للاستفراد والاستبداد الآيديولوجي، مما أدّى في نهاية المطاف إلى تخلِّي الناس البسطاء عن النمط الاشتراكي في الحكم وإدارة الدولة مع أنهم ناضلوا من أجل استتبابه، ودفعوا أثماناً لذلك.
غير أن الاغتراب في الدول الرأسمالية يتجلّى بصورةٍ أشدّ سطوةً وسطوعاً، فهو يعني هنا الانفصال بين الذات والواقع، وشعور الإنسان باختلاف ذاته عن الآخرين، وافتقاد الإحساس بالعلاقة بينهما، مما يستتبع انعدام الشعور بالقدرة على تبديل الواقع، ثم افتقاد القدرة على اكتشاف المغزى والعبرة القيمية من الحياة. فالمجتمع الرأسمالي أوجد ثراءً مادياً لدى الفرد، لكنه عزّز لديه الخواء الروحي، فوجد في الالتفاف حول التنظيمات المشبّعة بالشعارات الدينية التعبوية فرصةً سانحةً لتعويض ذلك الفراغ المعنوي، واستعادة اللحمة المفقودة بين الذات الفردية والواقع.
أما السبب الثاني فيكمن في أن السلوك السياسي الجمعي يخضع في الغالب لتأثيراتٍ موقفيّةٍ آنيةٍ أكثر مما يخضع لتكوينات نفسية مستقرة في الشخصية الاجتماعية، ويمكن أن يُعزى ذلك إلى هيمنة اللاوعي الجمعي على الجماهير حينما تعيش في ظل أزمةٍ لا تعرف طريقاً واضحاً للخروج منها، وذلك بسبب شيوع معتقدات روحية أو غير منطقية تشتغل في أثناء الأزمة على تولِّي العقل الانفعالي إدارة السلوك الجمعي، فيتم تعطيل العقل المنطقي، وتندفع الجماهير نحو التظاهر لإثبات وجود (الأنا)، وينتهي الأمر بالمواجهة والعدوان والعنف والانتقام بلا حدودٍ.
غير أنه ما خفِي على الفرد المندفع بعواطفه لإثبات موقفه ووجوده “على أرض المعركة” هو أنه انتقل من اغترابٍ سياسيٍ قاده إلى العنف إلى اغترابٍ دائمٍ عن الذات التي تطمح في أعماقها إلى سيطرة القيم الأخلاقية الرفيعة التي تنشد الخير والمحبة والسلام بين البشر أجمعين.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .