نعيشُ اليوم في عصر المنَافَسَة، بل المُصارعةِ إنْ صحّ التعبير، المنافسةُ في كلّ الميادين ومُعظم المجالات، في العملِ والتجارةِ، في التعليمِ والإدارةِ، في الإنتاجِ والتّسويقِ، حتّى في الشّارع أحيانا، وتزدادُ حاجةُ المجتمعاتِ والدّولِ، والمؤسساتِ والشّركاتِ إلى المتميّزين والمُبْدِعين الذين يتمتّعون بقدرٍ كبير من الإتقان والاحترافية والتّخصّص والتميّز في أعمالهم، وذلك لما للإتقان من أثرٍ كبيرٍ في التّطوير والتّنمية، وفي نُهوضِ الأمم وتقدّمها، وإعلاء شأنها ومَكانتها، كمَا أنّ النّاس يُحبّون صفة الإتقان في الشّخصياتِ والأعمالِ، والبرامج والفَعاليات، والمنْتجاتِ والبضائع، والحِواراتِ والخُطب، ممّا يدلّ على أنه أمر مطلوبٌ ومرغوبٌ في النفس البشرية.
ومما لاشكّ فيه أنّ ديننا العظيم يدعو إلى الإتقان والإحسان، فكان النّبي صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على ذلك ويربيّهم عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحبُ إذا عملَ أحدكُم عملا أن يتقنهُ” السلسلة الصحيحة (1113) وكانتْ سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم مثالا حيّا، ونموذجا تطبيقيا للإتقان والإحسان، لدرجة أنّنا لو طَبّقنا نحنُ كمسلمين هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم في الإتقانِ لكانَ لنا شأنٌ آخر، ولأصبحنا قادة وعظماء ومثالا للآخرين في الريادة والامتياز.
الإتقان مطلب دائم وثابت في الشرع، وتشتد حاجتنا إليه على عدّة مستويات: فهناك إتقان على مستوى العمل، ويكون بكسر الروتين اليومي، وتعزيز الطاقات البشرية، وعمل المبادرات الإبداعية، وإنجاز الأعمال والواجبات بدقة وأمانة، وعطاء وحيوية، وابتسامة وحسن تصرف، وجَوْدة وعدم تأخير، يقول د. غازي القصيبي رحمه الله: “لا أذكر أنني نمتُ ليلة واحدة وعلى مكتبي ورقة واحدة تحتاج إلى توقيع، أدركُ أنّ التوقيع الذي لا يستغرق من وقت صاحبه سوى ثانيةٍ واحدةٍ قد يعطّل مصالحَ الناس أيّاما” هذا هو التميّزُ في العمل، والإتقان في الأداء، والحرص على مصالح الناس وسُرعة إنجاز معاملاتهم.
والإتقان في العمل لا يعني إنجاز الأمور والمهام الموكلة إلى الإنسان فقط، ولا الحضور إلى العمل، المكتب، الجامعة، المدرسة، في الوقت المحدد فقط، بل يعني تيسير الأمور الإدارية أوّلا، ثمّ الإنجاز بأعلى المعايير وطرق مبتكرة وإبداعية وفي وقت قياسي مطلوب، وبالخروج عن المألوف والطرق التقليدية، وهذا ما أطلق عليه اليابانيون “فلسفة كايزن” التي تعني التحسين المستمر الذي يبدأ من الأمور الصغيرة إلى الكبيرة ليشمل تحسين جميع مناحي العمل.
وهناك إتقان على مستوى العلاقات والتواصل مع الآخرين ويكون بفهم أنماط البشر والتواصل الفعال معهم من خلال إقامة العلاقات الإيجابية القائمة على الثقة والاحترام المتبادل، لأنّ الحياة ليست إلا مجموعة من العلاقات، والعلاقات هي ثروة المجتمعات وربّما يكون الاستثمار فيها من أهمّ الاستثمارات، حيث إنها تمنح الإنسان فرصا وتفتح له آفاقا وتجعل له مكانة لدى الآخرين، ومهما تطوّرت أدواتَ اتصالكَ وعلاقتك بالآخرين فستطوّر حياتك.
وهناك إتقان في الجانب الإيماني، ويكونُ بتمثيل أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، وإقامة الصلة الوثيقة بالله سبحانه وتعالى، ومع دينه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الإتقانُ هو جوهر الحياة وسرّ السعادة، وأصلُ النّجاح ورمزُ الهداية، وعنوانُ التّوفيق وسببٌ رئيسٌ لحصول الرضى النّفسي والاطمئنانِ في الحَياةِ وهو ما يُطلق عليه الإحسان.