العدد 2393
الإثنين 04 مايو 2015
banner
إمارة الخطيئة!! فؤاد الهاشم
فؤاد الهاشم
علامة تعجب!
الإثنين 04 مايو 2015


حكاية من الماضي، ولكنها ملتصقة بالحاضر وكأنهما توأمان سياميان! في شهر مايو من العام 1990، قبيل الغزو العراقي للكويت بثلاثة أشهر، كانت قمة “بغداد” الشهيرة، وقتها كنت ممنوعا من الكتابة بقرار رسمي “شفهي”، وبواسطة “الايريال” البدائي القديم فوق سطوح منازلنا، كنت أشاهد تليفزيون “بغداد” ينقل فعاليات المؤتمر!!
صدام حسين - بعنجهيته المعروفة - يسخر من الشيخ زايد بن سلطان “رحمه الله”، ويغمز من قناة الرئيس السوري الراحل “حافظ الأسد”، ويتبجح على الرئيس الأميركي الأسبق “جورج بوش” الذي سيطرده من الكويت بعد ستة أشهر، ثم يشنقه ولده “بوش الابن” بعد ذلك بست عشرة... سنة!! كان الحضور اليمني مكونا من الرئيس “علي عبدالله صالح” ونائبه “علي سالم البيض”، إذ لم يكن مضى على “اتحاد” اليمن الشمالي مع اليمن الجنوبي إلا بضعة أشهر فقط، لكن صدام حسين أبى إلا أن يسألهما عن “وحدتهما” فالتقط الخيط نائب رئيس الجمهورية “علي سالم البيض” - ذلك الماركسي القديم والشيوعي المناضل - ليقول كلاما عاطفيا ابتدأه بالآتي: “آمنا بالفكرة الأممية الماركسية والأفكار الاشتراكية واعتقدنا أن اليمن الجنوبي سيقدم الحرية والرخاء لشعبه، عشنا على التنظير والشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ليتنا اتحدنا مع الشقيقة اليمن الشمالي منذ سنوات”!!
كانت كاميرا تليفزيون العراق تدور على وجوه الرؤساء العرب - ومنهم الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله - والذين كانوا يستمعون باهتمام بالغ لما يقوله “علي سالم البيض”، وعندما وصلت الكاميرا إلى ملك الأردن الراحل حسين كانت قسمات وجهه متأثرة بابتسامة ذات مغزى وكأن لسان حاله يقول - أو هكذا استقرأت ابتسامته -  كنت أقول لكم منذ زمن دعكم من هذه الشعارات والتنظيرات”!!
 كلمة نائب الرئيس اليمني “الأسبق” ما زالت في أعماق دماغي حين قال: “ليتنا اتحدنا منذ سنوات”!! في العام 1995، وبعد هذه القمة - وما تلاها من أحداث جسيمة من احتلال وتحرير الكويت - وقع انقلاب قطر الشهير، وغادر الأمير “الجد” الحكم وصارت طائرته الخاصة مرصودة لكاميرات الصحافيين إما في مطار جنيف، حيث تربض لشهور في مطار أورلي أو غيره من مطارات أوروبا حتى تواجدت في مطار “أبو ظبي” مقر منفاه الاختياري!!
 كصحافي أولا، وكمواطن خليجي ثانيا، كان اهتمامي بلقاء الشيخ “خليفة بن حمد” والذي أطلق عليه الإعلام الغربي لقب “الأمير التائه” وهم يرونه متنقلا من بلد إلى بلد، ومن مطار إلى مطار!! أي انقلاب في أي بلد في الدنيا يثير شهية أي إعلامي، لكن الإثارة المزدوجة - بالنسبة لي - كانت في معرفة أصل تلك الإعلانات التي نشرتها صحف لبنانية وبطلب من ولده الشيخ “حمد” - الأمير الوالد حاليا يعلن فيه أن هناك ستة مليارات دولار أخذها الأمير الجد ويريد الابن استردادها، ولأن الميزانية القطرية - وقتها - وكما ذكرت تقارير عديدة من بينها جهات رسمية بداخل الدوحة نفسها لم يكن بها ما يكفي لدفع رواتب موظفي الدولة، وكأن “الغاز القطري” تبخر قبل الانقلاب وظهر... بعده!!
 عقدت العزم وأبلغت الجريدة بعزمي على لقاء الأمير “الجد” الشيخ “خليفة” و.. طرت إلى أبو ظبي!! كان سفيرنا في دولة الإمارات العربية المتحدة - في ذلك الزمن - هو الصديق العزيز “إبراهيم عبدالله المنصور” الذي دعاني للغداء على مائدته ظهر اليوم التالي، وأثناء تناولنا “مطبق الهامور” الذي يبلغ طوله حجم تلميذ في الابتدائي، أخبرته برغبتي بلقاء الأمير المعزول والمقيم في جناح بفندق “إنتركونتنال - أبوظبي”!
 ساعدني السفير بإجراء اتصال مع السيد “عيسى الكواري” وهو مدير مكتب الشيخ “خليفة” ورفيقه في رحلة الشتات، و.. تم تحديد الموعد في الساعة الثامنة من مساء اليوم ذاته!
وصلت الفندق، وظهر واضحا وجود “حرس إماراتي بلباس مدني” أمام المصاعد.. وصلت إلى الطابق العلوي وبنظرة سريعة على المكان تبين أن تجهيزات أعدت على عجل ليتحول الجناح الفندقي من سكن إلى ما يشبه.. المكتب!
تمديدات ظاهرة لأسلاك الهواتف الإضافية وأجهزة فاكس وتصوير.. إلى آخره!! التقيت بمدير مكتبه، رجل فاضل، هادئ، ينتقي كلماته بدقة، دخل في مقدمة إنشائية قصيرة مفادها أن “الأمير لا يريد حربا إعلامية ضد بلده وشعبه، وإنه اعتذر عن لقاء محطات تليفزيون أميركية مثل سي إن إن وبريطانية وفرنسية وغيرها”!!
سألته عن نوايا “الأمير” - مستقبلا - للتعامل مع قرار الانقلاب عليه وعزله، وماذا سيفعل حال عودته للبلاد و.. و.. و! أسئلة كثيرة أجابني عليها عيسى الكواري بتفصيل مذهل ستكون منشورة في الكتاب - المعد للطبع حاليا - وهو يحمل عنوان المقالة.. ذاتها!!
عدت إلى الكويت، وبعد أيام قليلة وصلتني من أبو ظبي تفاصيل حادثة صغيرة لكنها معبرة!! أصيب الشيخ “خليفة بن حمد” بألم حاد في أسنانه، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل، لو كان عارضا صحيا آخر - غير الأسنان - لحضر العديد من الأطباء وانتهت المشكلة، لكن الأسنان بحاجة إلى أجهزة ومعدات و... و!! الفريق الأمني الإماراتي قام بعمله بدقة وإتقان، وتم الاتصال فورا بالمسؤولين عن عيادة أسنان خاصة تقع في عمارة فخمة بأحد مناطق أبو ظبي الراقية - وقت حاجة الشيخ للعلاج ليلا كان ملائما لضمان عدم ملاحظة الفضوليين لوجود سيارات تقل أحداها أميرا خليجيا معزولا بانقلاب من ولده وشقيق زوجته! وصل الموكب إلى باب العمارة وخرج الشيخ خليفة من سيارته لكنه توقف عند المدخل رافعا برأسه إلى أعلى ليشاهد ارتفاع البناية وشكلها ثم أدار رأسه نحو العمارات المجاورة الراقية وابتسم وسأل أحد المرافقين مازحا: “أكيد.. هذه عمارات شيوخ آل نهيان”! رد عليه أحدهم قائلا: لا يا سيدي، إنها عمارة مملوكة لمواطن إماراتي عادي بناها بقرض حكومي، وكذلك بقية العمارات الفاخرة في هذا الشارع، شيوخ نهيان ليس لهم عمارة هنا، وباستطاعتك أن تسأل صاحب مركز الأسنان الذي سيستقبلك الآن عن اسم مالكها الحقيقي”!!
 صمت الشيخ خليفة قليلا ثم قال بصوت خافت “ليتنا قبلنا بالاتحاد مع الإمارات حين عرض.. علينا”!! و.. ما بين مقولة نائب الرئيس اليمني الأسبق وأمير قطر الأسبق رش التاريخ “كمشة من الملح” على جرح عربي.. قديم!!

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .