العدد 2603
الإثنين 30 نوفمبر 2015
banner
من يُبقي على الأمل؟! غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 30 نوفمبر 2015

مقطع مجتزأ من محاضرة، كان يتداول هذه الأيام، ضمن أطنان من الصور والمشاهد والأدعية والتصبيحات والتسميات، والجُمَع المباركات، كان هذا المقطع مما يلفت النظر ويجعل التفكر في كلمة منه أمراً ضروراً، ضرورة “فرض العين”. حيث كان الراحل الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي يحاضر، وهو – في أغلب الظن - وزيراً للعمل في المملكة العربية السعودية، مشيراً إلى أهمية عدم الالتفات إلى الضباب والغبار اللذين يحيطان الشاب السعودي، لأنه يرى الشمس من بعيد، فهذه العوالق ستنقشع ذات يوم، ولن تبقى إلا الشمس ساطعة مشرقة.
ولأننا في البحرين لنا نصيب وافر من القصيبي وأهله، ولأننا قريبون من المملكة العربية السعودية، بل ملتصقون بها، فإننا أمام الرهان نفسه، والتحدي نفسه، وهو النظر: النظرة إلى الشاب البحريني في مجال الأعمال والاعتماد عليه في منعطفات الحياة بشكل عام.
يضفي التنوع علينا الكثير من المذاقات الجديدة والمختلفة، ويجعلنا أكثر تجدداً في تعاطينا مع أنفسها، ومع محطينا، ويبعدنا أيضاً عن التفكير بالطريقة ذاتها لحل المشكلات المتكررة، لأن تكررها يعني أن الحلول السابقة لم تُجدِ نفعاً إلا لوقت قصير وفترة زمنية أراحتنا من العناء، ولكن المشكلة ما لبثت أن عادت مجدداً. كما أن التنوع المجتمعي يثري الثقافة، يزاوجها ويهذّبها، أو يضيف إليها ركناً جديداً. غير أن هذا النوع أو التنويع بات في بلادنا من الكثرة بحيث صار من الصعب أن تتبين الأساس من الإضافات، حتى باتت الإضافات تطغى على الأسس في بعض الأحيان.
فالبحريني اليوم إن لم يُبق على جذوة الحماس سيضيع في الغد القريب في خضم المنافسة القوية، الجائرة أحيانا، القاسية أحيانا. إذ تأتي قسوتها في امتداد للتنافسية الطاحنة، التي تطحن في طريقها الرأفة وجميع معاني الأخلاق حتى لا يبقى من الإنسان إلا شكله الخارجي وحسب، بينما داخله سيكون مفتزاً جداً، متوثباً، مستعداً للغداء بمن يفكر في أن يتعشى به، حيث الأمر يتعلق بالبقاء أساساً نظراً للندرة التي سنأتي عليها من الأعمال والتشبعات إن ظللنا نفكر أن البحرين قارة، وقادرة على الاستيعاب والتمدد والتوسع، ولم نفكر في ما نتحدث عنه منذ عشرات السنين بأننا بلد محدود الموارد والمساحة.
ويأتي الجور من البدائل العددية الكبيرة أمام المشغّلين، تتوفر في بلدان العالم الكثير من البدائل الوظيفية التي يمكن أن تمارس في بلدان أكثر مرونة واستجابة للأعمال بكل أنواعها، كما استبدلت دول كثيرة أعمال بدالات الهاتف من بلدانها إلى بلدان أقل أجوراً، وأقل إضراباً، وأقل سؤالاً عن الحقوق، حتى وإن أدى ذلك إلى المبالغة في العبودية المعاصرة تحت قناع الوظيفة، لأنها – على الرغم من قسوتها وإذلالها الموظفين في بعض الأحيان وامتصاص رحيق شبابهم وطاقتهم في مقابل ربما هم يستحقون ما هو أفضل منه – ستظل (الوظيفة) الخيار الأكثر مقبولية لمن لا يملك القيام لوحده بما يجب عليه القيام به من أعمال خاصة.
وتأتي قوة المنافسة التي يواجهها الشاب البحريني اليوم، وسيواجهها مضاعفة في المستقبل، من ناحية نوعية الأعمال المقبولة، حيث لن تكون الأعمال المجزية الأجر إلا لمن تأسس بقوة، سواء من الداخل أو الخارج، وهذا يحتاج إلى تفكير جدي من قبل المؤسسات الرسمية في البحرين أساسا، وهو إعداد الجيل المقبل بشكل مغاير عمّا أعدِّ به الجيل الماضي، والأجيال التي سبقته، حيث ولَّى زمان (الهمبكة)، وتصديق كل ما يمكن أن يقال للجيل الشاب، أو الاعتقاد بأنه صدّق بما قيل له لأنه ظل ساكتاً حينها، فهناك الكثير من الأمور التي تعتمل داخل الفرد على الرغم من سكوته وسكونه الظاهريين، هناك صراخ ومراجل تغلي في صدره عندما يجد الكلام الذي يرده في وادٍ غير ذي زرع، بعيداً عما يجري في الحقيقة، أو على الأقل ما يعرفه من حقيقه. تفكير ينحو إلى تأصيل الانتماء الحقيقي بالمعاني العميقة للوطنية، وليس توزيع قشورها وشكلياتها لكي تناسب الجميع، وإلا فإن الشباب القادمين سيضيعون بين أرجل المتراكضين نحو الفرص للعض عليها بالنواجذ... الرائي إلى هذه الصورة يلمح ولا شك الإنسان الأول بوحشيته، ولكن ربما يكون حليق الوجه، حسن الملبس والمظهر، ولكنه أبداً لن يكون أقل ضراوة من جدّه الذي كان يتحصّن بالكهف، ويحتضن قطعة عظم عملاقة لئلا يسرقها منه أحد.
إن المؤسسات، حكومية وأهلية، سوف لن تنظر في المستقبل إلى المواطن على أنه يستحق العمل، بل ستنظر في الغد أكثر منها اليوم، إلى من يمكنه أن يقدم لها العمل، وهذا الأمر لا جدال فيه، ولا يمكن أن تلام عليه المؤسسات الأهلية والخاصة، لأنها تتغيا الربح، وتنظر إلى المنافسة، وتسعى إلى تعزيز مكانتها. كما لا يمكن لوم المؤسسات الحكومية أو العامة على بحثها عن الأفضلية من الموظفين، الذين لا يشبهون كثيراً موظفي اليوم في الكثير من أخلاقيات العمل، وطريقة تعاطيهم مع مسؤولياتهم اليومية، حتى يمكنها تقديم خدمات أفضل للجمهور، ويمكن أن تقنع مؤسسات التحكيم العالمية بأنها أجهزة فعالة وقوية وسريعة الحركة، لا يهمها أن تقيم وزنا للجانب الاجتماعي بأن تلم المواطنين وتضمهم وتشغلهم وتفتح بيوتاً للكسالى منهم والنخرون والخربون...الخ، بل ستكون مطالبة بأداء عالمي فعال ومتدارك ومستدام، وهذه مصطلحات لا يعرفها من يريد أن يفطر ثلاث مرات في العمل، ويخرج لأداء واجب العزاء في ساعات الدوام، ويغتنم كل فرصة للهروب والتهرب والحصول على إجازة بين إجازتين، أو إجازتين تحاصران إجازة.
هذا المواطن مطالب اليوم أكثر وأكثر بأن يقلل جوانب الشكوى والتباكي ورمي العلل والأسباب على الآخرين، وتعليق الفشل والتراجع على مشاجب الحكومة والمجالس المنتخبة، وأن يمدّ بصره قليلاً فقط إلى الأمام ليرى الوضع ليس بالليونة التي يحلم بها حلم يقظة. والأجهزة الحكومية أيضاً مطالبة أن تدفعه لأن يقوى عوده، ببرامج علمية مجرّبة في إنشاء الإنسان، وأن تتعاون فيما بينهما لتوفير المناخ الذي يخرجه من مرحلة التغذية الملعقية، إلى صنع الغذاء نفسه.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .