العدد 2550
الخميس 08 أكتوبر 2015
banner
أيها الصهاينة... كم نشتاق لعداوتكم غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 08 أكتوبر 2015

شعور غريب دبّ فيَّ وأنا أرى مقطعاً قصيراً من فيلم وثائقي عن حرب “العاشر من رمضان” أو “6 أكتوبر”، أو “حرب تشرين”، والتسميات كثيرة ومثيرة في شأن هذه الحرب. فيلم قصير أحيا جانباً من الروح المتهاوية عربياً، مع رجاء ألا يكون ذلك من جملة “كان” وقريباتها اللاتي مللنا وجوههن ونحن نستعرض الماضي الغابر والمغبر الذي لن يعود ما دمنا نلوكه.
فيلم يرويه الطيّار الصهيوني بنفسه وهو الذي كان يقود طائرة الفانتوم المرعبة في ذلك الوقت، أي في أواخر الستينات والسبعينات، قبل أن يولد الجيل التالي من الطائرات الحربية الأميركية (F14 وF15 وغيرها من سلسلة الموت والرعب المتطورة)، وكان يطارد طائرة من طراز ميغ 21 يقودها طيار مصري. كان الصهيوني – وبعد مرور كل هذه السنين – مذهولاً وهو يصف القدرة الهائلة للطيار المصري في المناورة، والقيام بحركات أكروباتية للهروب من الملاحقة الشرسة للطيار الصهيوني. وإذ بالمقطع القصير من الفيلم الوثائقي ينقطع في هذه اللحظة، إلا أنها كانت – بحق – لحظة تمتلئ فيها النفس بالفخار، وتغرورق العيون بما آلت إليه الأوضاع العربية.
الكيان الصهيوني اليوم في أبهى عصوره وأكثرها ازدهاراً، وإن كان طيلة الأربعين عاماً الماضية تقريباً ينعم بهذا الهدوء الطويل الذي يمكنه من تعزيز دفاعاته، وتقوية حيطانه، وإحداث تنمية داخلية على مختلف الصعد، ولكنه اليوم ليس في حال الغفلة العربية عنه، ولا في حال الخَوَر العربي الذي ساد منذ أن وضع العرب سلاحهم جانباً بعد 1973 على اعتبار أنها الحرب التي لن تعقبها حرب، بل الأكثر من ذلك، انهم اليوم أكثر انشغالاً بأنفسهم من التوجه إلى العدو المشترك والواضح المعالم. هكذا الحال في العراق وسوريا ولبنان ومصر، ويبقى الأردن يعيش حالة “هدوء نسبي” محاذراً من انسياقات غير محمودة، فهل أجمل من هذا الوضع الذي يقتل فيه أعداؤك بعضهم البعض بحيث يكفوك المؤونة، ويرفعوا عنك الحرج الدولي، ويزيّتوا تروس عمليات الاستسلام المتبقية حتى تؤمّن هذه الجرثومة المسماة “إسرائيل” نفسها بجمع من الجيران الخانعين غير القادرين على رفع رؤوسهم، ووضع أعينهم في أعين العدو.
ذاك الطيار المصري الذي لا نعرف من هو، يذكرني بتقرير قديم قرأته وأنا يافع بشأن موازين القوى العسكرية بين الكيان المحتل، والجيش العربي السوري ربما في أواخر السبعينات، يشير إلى أن الطيار السوري (كطيارنا المصري البطل أيضاً في الفيلم)، لا يملك أحدث الطائرات العربية، ولا أكثرها تقدماً تكنولوجيا، ولا القوات الجوية العربية على خط المواجهة، تعادل أو تضاهي قوات العدو عدداً، ولا الطيارون السوريون يحصلون على نوعية التدريب القتالي نفسه الذي يحصل عليه أندادهم الإسرائيليون؛ ولكنهم – في جميع الأحوال أفضل من الطيارين “الإسرائيليين” بفضل فدائيتهم، والإيمان بقضيتهم وحماستهم العالية في المواجهة.
لم يكن الجندي العربي وحسب، بل أي عربي يعتبر “الإسرائيلي” عدوّاً أكيداً وليس عدواً محتملاً. ويعتبر أن الصراع بين العرب والمحتل “صراع وجود لا صراع حدود”، ومن دون الكثير من العبارات الدبلوماسية المائعة، فإن اختصار المسألة هو: “نحن أم أنتم”، لأن العقيدة الصهيونية المحتقرة لكل الأعراق والعقائد لا تنظر إلى الآخرين إلا بدونيّة، وهذا ما لا يجعلها تتعايش مع أناس – أيّاً ما كانوا – إلا من أجل إدارتهم والسيطرة عليهم، ولكن يستحيل على الصهاينة أن يعيشوا بسلام وطمأنينة مع الآخرين، وأي آخرين؟! أناس خاض أسلافهم أقسى الحروب معهم، وشرّد الأجداد الأجداد، كل هذه العوامل تنهض لتقف حائلاً حين يتواجه العربي مع الصهيوني. إنها جزء من تربيتنا العفوية في كل مكان، حينما تحمل بقالات الحي، أو الأندية الأهلية في المناطق أسماء تدل على الكفاح والقوة والتضحية والوحدة والعروبة. حينما ندخل كل صباح مدرستنا (كانت مدرسة عمر بن الخطاب) وقد رسم على أعمدة مدخلها شاب متلثم بالكوفية الفلسطينية، حامل سلاحه، مقبل على عمل بطولي، وكتب فوقه “فدائي”، أو هكذا يخيّل إليّ مكتوب فوقه. عندما كانت كلمة “العدو” هي الوصف للعدو الحقيقي في نشرات الأخبار، حينما كانت فلسطين قضيتنا الأولى والثانية والخامسة والمئة، وليست أهم منها قضية. عندما كانت محطاتنا العربية لا تنقل مباراة البرازيل وإيطاليا في نصف نهائي كأس العالم (1982) لأن حكم المباراة كان من الكيان المحتل. وعلى الرغم مما يراه مجايلونا والذين من بعدهم من الشبان أنه تصرف سخيف وأحمق وطفولي من الدول العربية آنذاك؛ فإن المدلول كان تربية العناد والرفض والممانعة (وليست بممناعة أهل اليوم الذين يمانعون إطلاق رصاصة تجاه المحتل، إلقاء حجر ليعبر أسوار الحدود تعبيراً عن الاحتجاج)، هذه التربية التي افتقدتها الأجيال التي جاءت بعد أوسلو ووادي عربة، الأجيال التي لم تعد تسمع عن مكاتب مقاطعة إسرائيل، وربما لا تدري لماذا تقاطع، بينما دول أوروبية ليست فلسطين قضيتها تقاطع مجتمعاتها منتجات إسرائيلية كثيرة لأن الكيان المحتل خارج عن العهود والمواثيق الإنسانية.
ربما ندم الطيار الإسرائيلي أنه لم يعش هذه الأيام، إذ سيجد أن الكفاءة البشرية بينه وبين الطيار العربي تصب في صالحه 100 % لأن الطيار العربي لم يعد يتدرب إلا على دكّ شعبه، وشعبه لن يطارده بمقاتلات في الجو. وسيجد التكنولوجيا لصالحه أيضاً من دون نقاش، ولن يجد الحماس العربي لقتاله، فلن تكون المواجهة بين الطيار العربي والإسرائيلي (الله لا يقول) من باب المناورات المعروفة النتائج. فلقد ماعت جميع القضايا والمصطلحات، وما عادت الأجيال الحديثة (ناهيك عن القادمة) معنية بالصراع العربي الإسرائيلي إلا في حدود بسيطة وكأنها أمور تحدث بعيدة عنها، ولا مكترثة من المنطلقات نفسها، فإن هي وعت فإنها ستعتبر الداخل عدواً يجب عليها قتاله، حيث تسود الفوضى. إننا بحاجة لاستعادة أجواء عداوتنا لـ “إسرائيل”، حتى نضع الهدف نصب أعيننا، ولعل...

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .