العدد 2515
الخميس 03 سبتمبر 2015
banner
لو أن الفتى حجر! غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 03 سبتمبر 2015

أوقفني في التويتر وقال لي: أنت تغيّر مواقفك بحسب الأهواء والأنواء، وبحسب المصالح والمكاسب. وإن كنت لا أدري عن أية مكاسب يتحدث شاب لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره بعد ربما، لأن لا راتبي زاد في السنوات الثماني الأخيرة، ولا منصبي الوظيفي تقدم، بل ورفضت في هذه السنوات بعض العروض التي يراها البعض مغرية من الناحية المادية أو الاجتماعية.
تعاطيت مع هذا الشاب الذي كان يشير إلى أزمة البحرين في 2011، وحاولت أن أعرف منه مواطن التناقض والتغيّر التي قالها، فلم أجد لدعواه مكاناً، ولا لحديثه محلاً.
أوقفت نفسي في منتصف الطريق لأتساءل: أليس من حق المرء(بل من الواجب عليه) أن يتغير إن رأى أن أفكاره التي اعتنقها يوماً ما غير مناسبة، أو أنه أجرى مراجعة مع نفسه ليجدد فكره؟ وهل من الضروري أن يتغيّر الإنسان طمعاً في منصب أو جرياً وراء إشباعات الحياة التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد؟ فكم من مفكر بدأ حياته الفكرية بطريقة وانتهى بطريقة أخرى. وكم من شخص، وكل شخص مفكر بطبيعة الحال، غيّر نظراته للأمور بحسب النضج وتغير الظروف وتكشف بعض ما خفي من أمور، أو انطماس أمور أخرى، وانفضاض الناس عن أفكار كانت تحركهم سابقاً، والتفافهم حول أفكار أخرى، حتى روي أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) اجتهد في ميراث الجدّ، فقضى فيه بقضايا مختلفة، وكان يقول: “ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي”أي أنه غيّر موقفه واجتهاده. بل وفي بعض الفترات من الزمن كانت تسمى بفترات اللا انتماء واللامعنى واللا هدف، فلم تطبع تلك الفترات بطابع عالمي موحد، ومع ذلك فالإنسان نتاج كل هذه التحولات التي تفاعل معها.. هل يحق للفتى أن يبقى حجرا؟
هل التغيّر الحدّي أمر معقول أم أنه يشي بنوع من المراهقة الفكرية التي لا تعرف إلا التطرف شرعة ومنهاجاً في الحياة، كما غادر بعض من أهل أشد أجنحة اليسار تطرفاً مواقعهم، ليتقدموا صفوف أكثر أهل الدين تشدداً، أم أن المسألة هي نفسها، والمتغير هو اللون أو الغشاء أو القشرة الخارجية، بينما الجوهر المتطرف هو الإنسان الذي انتقل من أقصى الطرف إلى أقصاه الآخر ولا يمكنه أن يعيش في حالة وسطية يمكنه من خلالها أن يرى جميع الأطراف، وأن يكون في مرمى سهام كل الأطراف أيضاً بنفس راضية، وأن يتقبل المنتمين لجميع الأطراف لأنهم في البداية والنهاية يشتركون معه في منحة الروح التي وهبها الخالق له ولهم جميعاً من دون أن يعطيه الله الحق في محق أحد، أو يجعله أقل من آخرين ليقوموا بسحقه.
أوقفتني في هذه السنوات الأخيرة إشارات يقوم بها بعض من كنت أسمع عن حراكهم في الستينات والسبعنات حينما كان “الوطن” هو الهم والأساس، وصاروا الآن يهمزون ويلمزون بالأصابع ليشيروا إن كان هذا الشخص منّا (بإصبع مستقيمة) أم منهم (بإصبع معقوفة)، في تعبير متناهي النرجسية والتطهر، بأن من مثلي فهو مستقيم السير والسيرة، ومن لا يشبهني فهو أعوج كذيل الكلب الذي لا يمكن أن يستقيم. هذا والحديث عن قيادات من الصفوف الأولى، بمعنى أنها تأسست فكرياً على نحو يحصّنها (نظرياً) من أي اختلال مهما جرت المقادير ودارت الأيام وتحولت الموجات، فكيف هو الحال بالجماهير التي لا عمق تجربة لها، ولا متانة تأسيس، فهي بالتحولات أولى، وبالتغيرات أجدر... هل كان الوطني إذّ ذاك يُرمز إليه بالإصبع المستقيمة، وغير الوطني هو المعقوف الذي لا يعتدل في مشيته ولا في طريقة تفكيره؟ هل “الوطني” بالأمس هو نفسه اليوم؟ هل “خائن” هو من يحمل الصفات ذاتها اليوم؟ من كان بالأمس يوزع صكوك الوطنية بيد، والخيانة والعمالة بيد أخرى، هل هو الفصيل نفسه والتيار نفسه اليوم؟
هل التغير مثلبة؟ ربما تكون كذلك في حال عدم الواثقين من أنفسهم، فها هو ذا الراحل الكبير عبدالوهاب المسيري، يكرّس كتاباً يعنونه بـ “رحلتي الفكرية”، والتحولات التي مرّ بها. والدكتور مصطفى محمود الذي عبر مرحلة الشك إلى اليقين، وملايين غيرهما ممن نعرف ولا نعرف الذين غيّروا أديانهم، وتحولوا عنها.
الثبات مفهوم لا يعني بالضرورة أمراً حسناً، فهو من بعض معانيه الجمود، ومن بعض معانيه العناد، وكذلك يمكن أن يطلق على من لا حياة له، فلولا تغيير الطباع، وتغيير الأفكار بتحولاتها الصغرى والكبرى، لبقي الإنسان على ما تعلمه من أبيه آدم (عليه السلام)، كما هي الحيوانات التي بقيت تعيش غريزتها وحسب، وتكرر دورة حياتها من دون إثارة خاصة، أو تميز واضح بين أحد أفراد القطيع، أو إحداث قطيعة مع أفكار سبقت. فقد سبق للشاعر المخضرم (الجاهلي الذي أدرك الإسلام وعاش حتى حكم معاوية بن أبي سفيان) تميم بن مقبل في قصيدته الميمية المشهورة : ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم”، فلو كان ثابتاً، جامداً، حجراً، لما أثرت فيه الحوادث ومضت إلى شأنها. ولكنه – في المقابل - إن كان حجراً فهذا يعني أنه لا يشعر، ولا يحب ولا يكره ولا يتفاعل ولا يتحرك، فهل هذا هو المطلوب من الإنسان اليوم حتى يقال عنه انه ثابت على مبادئه؟ حتى في الحروب والمعارك هناك “انسحاب تكتيكي” من أجل تجنب مذبحة للجيش، أو إعادة الصفوف، أو استنزاف العدو، أو إعادة تموقع...فليس الثبات دائماً بالشيء الحسن الممدوح، ولا شدة اضطراب التغيرات والتحولات وكثرتها وحدّيتها بالشيء المحمود.
لا يدري أيٌّ منا إلى أي مدى تغير شكله إلا عندما يرى صورة قديمة له، أو يرى الدهشة على محيا أناس لم يروه منذ سنوات عدة. وكذلك الفكر لا يمكن ملاحظته ذاتيا بسهولة إلا إن كان الفرد منا يراقب نفسه وتصرفاته ليعرف إن تغير أم لا، وإلى أي مدى تغير... وبئساً له إن لم يتغير.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية