العدد 2512
الإثنين 31 أغسطس 2015
banner
هممٌ تبالغ في التوحش غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 31 أغسطس 2015

غالباً ما يلجأ الناس، خصوصاً في هذه البقعة من العالم “أعني الوطن العربي” إلى استجداء الحنين إلى الماضي، واستحضار مواقف وبطولات حدثت على أيدي آخرين، وفي ظروف مختلفة، ومن أناس لا يمتّون إلى أناس اليوم إلا بصلات التشابه في بعض الصفات ومنها العرق والدين وبعض الأسماء المتناثرة، ولكن الجميع يعلم أن التاريخ لن يعيد إلينا بطولة، ولن يغيّر لدينا هوية. فإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فنعم، وإنما سنحتاج إلى ما لا يمكننا التوصل إليه إلا ببذل الجهد المضاعف، وفي الاتجاه الصحيح، ولمدة مستمرة من الزمن، لعل التاريخ يسعف في إعادة بعض الاعتبار لنا.
التاريخ يصبح أداة منفلتة إذا لم تُحسن قراءته وتقديمه للناس، وإذا لم يجرِ تقليم ما زاد عن حاجة العقل ومدركاته، والتاريخ من شأنه “تخدير الحاضر بالأمس”، ومن شأنه أن يشحذ الهمم أيضاً، إن كانت وراء سرديات الماضي خطط جاهزة للتنفيذ، ووضع المتلقين في مركبات تنتظرهم على سكّة الانطلاق من أجل الوصول إلى حالات مشابهة من حيث المكانة التي ما كان الوضع عليها في الأمس، حيث غالباً ما يجري سرد الجوانب الحميمة منه والمضيئة، وباقتضاب واختزال مخلّين حتى يعيش السامع في حلم وردي.
فلم يخلُ أي عصر من التناقضات البشرية، فشهدت جميع عصور العروبة والإسلام من البلايا ما يجعل الروايات حولها مضطربة، من حيث الفتن والحروب والاقتتال بين المسلمين أنفسهم منذ حروب الرّدة وما تبعها من حروب، ولمّا تستقر لهم الأرض بعد، ولمّا يثبت حكمهم حتى ذلك الحين. والعصر الأموي يكفيه لو أنه وقف عند مقتل سبطي رسول الله (ص)، وخروج الحجاج بن يوسف الثقفي. والعصر العباسي الذي شهد ازدهار العلوم الفقهية منها والبحتة والترجمة والفنون؛ شهد أيضاً أزمات كبرى، وتحديات لا حدّ لها، ومثالب وانحرافات على مستويات عدة، وما مثالب الدولة الفاطمية بقليلة، إضافة إلى الحركات التي يحاول البعض اليوم قراءتها على أنها ثورات لها بواعثها المذهبية أحياناً، والاجتماعية أحياناً، ويحمّلها ما لا تحتمل في أحايين، ولكنها في كل هذا كانت نبتة زمانها ومكانها اللذين سقياها.
واحدة من مشاكلنا الكبرى اليوم، “لوك” قصص التاريخ بشكل مستمر على أذهان اليافعين، ومن هم أصغر من هذه الأعمار أو أكبر، حتى ليشمّ بعضهم رائحة غبار الخيل وهي تعدو في اتجاه العدوّ لتصطكّ السيوف بالسيوف، وتتكسر النصال على النصال، ومع افتقاد تربية الفكر الناقد، واستمرارية التلقين والتأمين (قول: آمين)، لكل ما يأتي من الماضي، حتى اختلط المعتاد من الأمور بالمقدسات، وحتى صار أناس مجتهدون في مرحلة الـ “لا مساس” وإلا اعتبر ذلك من الموبقات الكفيلة لدحرجتك في النار 700 خريف، ومن الصعب قول أحدنا اليوم لبعض الأقاصيص انها خارجة عن سياق العقل والمنطق.
هذه الانتقائية المخيفة اليوم، هي الكفيلة بأن تصبح نصوصا بعينها هي اختزال الفتاوى، واختزال الدين، واختزال الصواب، حتى لو كانت في قبالتها أطنان من الآراء المعتبرة من مخالفيهم، وتستحق النظر فيها، والمزاوجة بين ما أنتجه هذا العقل وذاك، ولكن يأبى أمراء الدم إلا أن يذهبوا بالأجيال الجديدة إلى نهايات التطرف، وإقناعهم بالعنيف من الآراء، والدموي من الدعوات، والقاتل من الفتاوى، فهذه أسهل من أجل قيادة من امتلأوا بأقاصيص النصر والظفر والفوز والفتوحات المختلط الصحيح منها والرفيع، بالخرافات فيها والوضيع، فما كان منهم، وهم يرون مواقع أمتهم وهي تداس بالأحذية، وتهان في كل محفل، ويُسخر منها وهي لا تستطيع أن تهشّ عن وجهها ذباب الأراذل من القوم؛ إلا أن يأخذوا بأيديهم ما تعجز الدبلوماسيات عن استرجاعه بالمفاوضات، خصوصاً لمن لا يملك من القوة مفاتيح، وليس في يده سوى قبض الريح. فما عليك إلا أن تتصفح وجوه من يظهرون في الصور على أنهم متطرفون حتى تتعرف على الأعمار التي انخرطت في مثل هذه التنظيمات لتكون وقودها وطاقاتها المتجددة. وهم ليسوا شرطاً من المغرر بهم، وربما ليسوا من الفقراء، فنعرف أناساً ذهبوا إلى تلك التنظيمات منذ الثمانينات وهم ينحدرون من أسر ميسورة. كما أنهم ليسوا من المغفلين شرطاً، وليسوا قليلي التعليم بأكملهم، فهناك من أنهى التعليم الجامعي، وتخصصات دقيقة، والسؤال: ما الذي أضافه إليهم التعليم الحديث، وكيف لم يتغلغل إلى دواخلهم ويرسّخ فيهم قيماً تدعو للبناء والعطاء والإعمار والتنمية، بدلاً من روح القتل الرخيص والعبثي الذي يعملون به. وكيف قادهم إعجابهم بالتاريخ الأحادي الزاوية، والمتناقض الروايات في أحيان كثيرة، لأن يكون هو مرجعهم، وغدهم الذي يريدون استرجاعه اليوم عبر انتهاج العدمية.
لقد كنا نشكو من “تخدير الحاضر بالأمس”، ودغدغة المشاعر لننام بابتسامة واسعة بأن ما حدث بالأمس لا يزال مستمراً إلى اليوم؛ فصرنا نشتكي بأن هذا التاريخ نفسه استنهض همماً متوحشة منفلتة من أي إطار أخلاقي إنساني، تقتل لمجرد الاختلاف، وتنتهك لمجرد أن الله لم يهدك إلى ما هداهم إليه من تفكير، وليس على الاختلاف المذهبي، أو التنائي الديني وحسب.
إلا أنه لم يعد خافياً أن فرق القتل والحرق والانتقام والتفاخر بالتكاثر في السحق المتبادل للرؤوس، وإزهاق الأرواح، ما هي إلا ما يودُّ الكثير من الساسة أن يفعلوه في العلن بأيديهم، لولا الخشية أن تتسخ بزاتهم الفاخرة، أو عباءاتهم المقصبة، وبشوتهم الموشّاة بالذهبي من الخيوط والفضي، فيطلقون ضحايا العقل على ضحايا الجسد ليزهقوا أرواحهم، ويتفاوض الساسة نيابة عنهم... إنهم الأذرع الباطشة، والمخالب الجارحة، التي تستند إلى التاريخ ومرويَّات الأمس لتأسيس الغد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .