العدد 2452
الخميس 02 يوليو 2015
banner
هكذا كوميديا... لهكذا متلقِّين غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 02 يوليو 2015

أجلس أمام التلفزيون مضطراً لأننا لسنا على وفاق مع بعضنا، فلا أنا من هواة التلقي، ولا هو من هواة المناقشة والتعاطي. إن أردت أن أكون أكثر وضوحاً (خصوصاً أننا في شهر رمضان)، فلا أجد نفسي في الصراع على “الريموت كونترول” لتغيير المحطات، أو الوصول إلى برنامج مأثور أو مسلسل أشعر بالفراغ إن فاتتني حلقة منه. ومع ذلك أجدني هذه الأيام مضطراً للجلوس مربوطاً بالتلفزيون في بعض محطاته الخليجية والعربية، لما يسمى بالبرامج الرمضانية، وهي من الزخم والتنوع ما يعجز عن متابعتها من يفرّغ نفسه لها تفريغاً.
لفتني في بعض ما رأيت، وبعض ما أرى إعلانات لهذه المسلسلات، هذا الكم الكبير من العته والخبل تحت لافتة كبيرة اسمها الكوميديا. كوميديا غادرها رائدها الإنجليزي تشارلي تشابلن (1889 – 1977) منذ بدايات القرن العشرين حينما قدم الكثير من الأفلام غير الناطقة والمعتمدة على الحركات الجسدية والتعبيرات والإيماءات حتى تغني عن الصوت وذلك قبل الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، فبعد قرن من الزمان، يأتي ممثلون، محليون وخليجيون وعرب، ليعيدوا للتمثيل بالإيماء روحه مجدداً، ولكن على أسوأ صورة يمكن أن يتخيلها مشاهد. بكمية فاحشة من التغابي والاستهبال واصطناع حركات الوجه والكلام المحشو بما لا يليق من العبارات في محاولة لاستدرار الضحك تدعو إلى الشفقة، أو انتزاع ابتسامة من محيا المشاهدين بما يمكن العمل به من التهريج الذي هو ذخيرة هذا الكم من المسلسلات.
كمشاهد (ولست ناقداً فنياً ولم أكن ذات يوم)، وجدت أن الأفلام الصامتة للثنائي الأميركي الشهير لوريل وهاردي (قدما سلسلة أعمال في الفترة من 1927 إلى 1951) أكثر خفة من تلك التي سجلت في فترة تالية مصحوبة بالصوت، إذ كان الاثنان في فترة قد عرفا أن الجمهور ذاك الوقت رمى وراء ظهره - وإلى الأبد - كوميديا الجسد، القائمة على المهارات والخفة والتعرض للضرب والوقوع المتكرر والزحلقة والوقوع في الماء وتساقط أكثر من شخص على بعضهم البعض، الأمر الذي كان يضحك الجماهير قبل 100 عام، وعندما دخل الصوت إلى صناعة السينما صار الجمهور يريد أن يرى ويسمع ما يمكن أن يحترم ذائقته التي تطورت عبر التجارب والمنافسة القوية في ظل تفتح أذهان، وأفواه رجال الأعمال، خصوصاً في الولايات المتحدة إلى ما يمكن أن تدره صناعة الإعلام عليهم من أموال، فصارت المنافسات طاحنة في ما يمكن وصفه بقوى الطرد المركزية التي تدور بسرعة مذهلة ولا تبقي فيها إلا من يمكن أن يكونون لائقين بالمرحلة نفسها، أما من لا يتناسب معها، فتطوِّح به هذه الآلة العملاقة السريعة الدوران.
الكوميديا التلفزيونية في الكثير من البلاد تناقش أوضاعاً اجتماعية راهنة، تنتقد بشيء من التركيز والتكثيف يوميات الناس، في بيوتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية، والوظيفية، والحب، والزواج، والغلاء، والتعليم، والفساد، والواسطة، والأمراض المجتمعية الجديدة التي لا قبل لنا بها. فيها تشريح لما يمرّ به المجتمع، بل يمكن اتخاذ الكوميديا أداة للتأريخ لدقائق ما يمر به المجتمع، مثله مثل صفحات “بريد القراء” في الصحف التي عادة ما تحمل الانطباعات العفوية للناس عما يعانونه، ويمكن للباحثين استقراء هموم المجتمع وتحليلها مما يعبِّر عنه القراء غير مدفوعين بسياسات تحرير وغيرها.
ولكن عندما أنظر إلى هذا الكم من الأعمال التي أنتجت في 2015، أي بعد 46 عاماً من نزول الإنسان على سطح القمر، وبعد 18 عاماً من استنساخ النعجة دوللي، و96 عاماً على التعليم النظامي في البحرين، و22 عاماً على انتشار الإنترنت عالمياً، وبعد 560 عاماً من اختراع المطبعة، وبعد 35 عاماً من الإعلان عن آخر إصابة بالجدري على مستوى العالم، و42 عاماً من حرب العاشر من أكتوبر 1973، وبعد 29 عاماً على حادثة مفاعل تشيرنوبل، و26 عاماً على انهيار جدار برلين؛ أتساءل: هل هذا ما نستحق؟ هل ما ينتج هذا هو التعبير الأصدق الذي وصلنا إليه ثقافياً؟ هل تخاطب هذه الأعمال مستوياتنا التعليمية وذوائقنا التي تلاقحت مع ما يجري إنتاجه في استوديوهات عالمية في فضاءات منفتحة لم تعد تأخذ بـ “دارٍ درى ودارٍ ما درى” كما كان الحال ذي قبل؟ أقول: نعم، ذلك لأننا نرى قبولاً عاماً لهذه الأعمال، وتكراراً لها عاماً بعد عام، واحتفاءً بها وبمن يمثلون فيها، وما يشبه الإدمان عليها، والمطالبة بها، في كل رمضان على اعتبار أنها مسلية وفكاهية وتبعث على المرح.
نعم، نستحق هذا الذي نحن فيه من عبث وتسطيح لأننا لم نكن ذات يوم نسأل عن الجودة في أعمالنا الدرامية. ونستحق لأننا غالباً ما نعمل وكأن رمضان كله العام، والعام كله رمضان، ولابد أن تكون سلال المحطات ملأى، والغلال ناضجة بما يكفي لكي تكون مغرية، وأن تكون البرامج جديدة، ولا ندري مدى الاهتمام بأن تكون ذات مستوى أم لا، فساعات البث الطويلة ثقب أسود يبتلع ساعات وساعات من الإنتاج الفني ولا يمكن طلب الجودة في جميع ما يقدَّم، كما أن الجيد من الأعمال بالنسبة لعالمنا العربي ليس في العمق والمضمون، ولكن بقدر ما فيه من “نجوم” تم الصرف عليهم، وعلى المشاهد أن يسدد الفاتورة في نهاية المطاف، وفي ظل استوديوهات تدفع، ومحطات تبلع، لا أحد يسأل عن القيمة الفنية لهذه الأعمال التي يجري تقديمها، خصوصاً الكوميدية منها، والتي تحولت إلى الهزل وتسفيه العقول.
لم تكن سلسلة الأعمال الدرامية التي أنتجها تلفزيون البحرين في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي تنتمي إلى الكوميديا وإن لم تخلُ منها، ولكنها – وعلى ما فيها من عور في أكثر من مكان – كانت جديرة لأن يُبنى عليها، وأن تستمر المحاولات، وأن يتناسل الكتاب، ويتكاثر الممثلون، ويتعدد المخرجون، وتصبح لدينا حركة فنية لا تقبل المساومة والتراجع، ولكن هناك من “سحب الواير” وأضاع مشهداً فنياً متقدماً توصلت إليه البحرين في قيادة وريادة خليجية قصيرة المدى، وكما تنازلنا عن ريادات سابقة، تنازلنا حتى عن هذه لنجني ما نراه اليوم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية