العدد 2417
الخميس 28 مايو 2015
banner
وجها العملة... دأبنا اليومي غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 28 مايو 2015

في كثير من الأحيان نقسو على أنفسنا وواقعنا كثيراً، ونجلد ذواتنا بما تحمله من مكونات ثقافية واجتماعية وتقاليدية وجمالية. ننتقد ترابنا وطقسنا وسحناتنا وطرائق تفكيرنا، لا تعجبنا أنفسنا وكل ما لدى الغير أفضل دائماً. وبطبيعة الحال هذا ما نقوله عن أنفسنا، ولكننا نتميز غضباً إن قال غيرنا عنّا نزراً يسيراً مما نقوله نحن عن أنفسنا... إنه التناقض الذي يحاصرنا ونحاصر أنفسنا به... بيد أننا نمارس هذا الحفر في أنفسنا يومياً، ويريحنا وينفض عن أكثرنا المسؤولية بأنه انتبه إلى المشكلة، وانتبه إلى تناقضها مع من حولنا، واستخدم الكوميديا السوداء في “عندنا... عندهم”... وانتهى الموضوع.
ولكن هذا لا يعني أن ما نفعله خطأ على إطلاقه، فالكثير من الظواهر التي تحيط بنا إلى حد الحصار هي نتاج أنفسنا، وحصاد ما زرعته أيدينا، ولا يمكن حينها إلا الوصول إلى النتيجة نفسها من التهكم والسخرية المرة لعل الواقع يتغير، ولكنه يظل دائماً على حاله، ونحن من يرحل.
فقبل أيام نشرت صورة أليمة جدًّا، وإن كانت يومية... لوحة تقسمت أربعة أقسام حمل كل قسم منها صورة لعاصمة عربية، وهي: بغداد، ودمشق، وطرابلس، وصنعاء، وبينت كل زاوية حجم الدمار والخراب الذي حلّ بكلّ منها، رباه كم نتشابه في الدمار والأطلال... فلقد تناسخت العواصم الأربع في مبانيها المنخورة بفعل الرصاص والقذائف من المدافع الأرضية والطائرات، وخلوها من البشر، وتكاد تسمع الريح تصفر في الخواء، ورائحة الموت منتشرة، وبقايا جثث عجز المتحاربون العبثيون عن رفعها لتكريمها بالدفن، إما كشهيد، وإما كخصم شهم حين يتحلى الطرف الآخر بأخلاق الفرسان، وإما... لمجرد كونه إنسان. لا يمكن أن يخطر على بال أحد أن كل هذا العنف الداخلي الذي يحدث يقف وراءه أناس أحبوا ذات يوم، وأخلصوا لأوطانهم ذات يوم، ودمعت مقلهم شوقاً لوطنهم وهم فيه ذات يوم... إنهم جنس غريب من البشر/ المواطنين الذين يتأخّر لديهم الوطن حتى يكاد يختفي من سلم أولوياتهم فلا يرونه لفرط بعده... وفي منتصف اللوحة... في المركز تماماً... هناك صورة لشارع في تل أبيب.. منسق، تقوم المباني الشاهقة الحديثة على جانبيه... الأشجار مصطفة بتناسق جميل على الجانبين، وكل شيء يسير - كما يبدو في الصورة - بمنتهى النظام... ما الفرق إذن؟
الفرق أنه في اليوم الثاني من إعلان دولة “إسرائيل”، اللقيطة، المغتصبة، المجرمة، المحتلة؛ أجرت انتخابات بين الأحزاب حتى يجري العمل على تأسيس دولة حديثة، بينما لا تزال الدول العربية تقدم رجلاً وتؤخر أختها في مسألة الانتخابات، والاجتهاد في كيفية جعلها صورية قدر الإمكان، وغير مؤثرة على مراكز القوى والمتنفذين قدر الإمكان، ولولا الحياء لما كانت هناك انتخابات من أساس، فلا أحد يعلم ما الذي يريده “الخواجات” منا ومن انتخاباتنا؟ ماذا يعلمون عن خصوصيتنا وأعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا وعن ولعنا في صنع الأصنام البشرية والآلهة والطواغيت لكي نعبدها من دون الله لتبعدنا عنه سبحانه درجات درجات. لقد جعلت الجمهوريات (المحيطة بالكيان) والأنماط الأخرى من الحكم العربية، الرئاسة مُلكاً عضوضاً، والوزارة ملكاً عضوضاً، والإدارة مُلكاً عضوضاً، ورئاسة الاتحاد الوطني للسباحة التوقيعية ملكاً عضوضاً، ولا تؤمن بتدوير الكراسي والمناصب، إلا إذا أتى أمر الله، فأمة لا تؤمن بالتغيير لا بد أن تشيخ، وتصبح مياهها آسنة، وشعارها المفضل “الله لا يغيّر علينا”؟
الفرق بأننا عرضنا “اقرأ” بالمجان لمن أراد، واستغرقنا في “اشخر” نوماً طويلاً عميقاً مليئاً بالكثير من الكوابيس لنصحو فزعين من نومنا، نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والشيطان مسكين بريء منا ومن مكرنا ومما نحيك، ونعاود النوم محكمين الأغطية على رؤوسنا كي لا نرى الواقع.
الفرق أن تلك الأمة التي طالما رميناها بكل أنواع الوصوف السيئة، لديها اليوم عشرات الآلاف من الباحثين، وهي الخامسة عالمياً في الإنفاق على التعليم، وميزانية البحث العلمي تتضاعف فيها كل ثلاث سنوات، بينما في دولنا العربية تتراجع موازنات التعليم والبحث العلمي لصالح الرشاش والمدافع التي يُحرص يومياً على تلميعها حتى تكون بحق جزء من الزينة، ومتى ما ذهبت الموضة استبدلناها بصفقات ذات تسع خانات. أما بحثنا العلمي فهو لغرض واحد فقط: التباهي التعيس على جيراننا أيّنا أكثر تخلفاً من الآخر، فيما لا أحد – وعلى ندرة هذه الأبحاث – يأخذ منها، ويطبق توصياتها حتى نتقدم بوصة بفعل أنفسنا وما تنتجه عقولنا، لا أن نتقدم بمقدار قدرتنا على شراء الأجهزة والمعدات والعقول والحقول وغيرها، فما نشتري به اليوم معرّض أن يتلاشى في أي وقت على الرغم من التقديرات اليوم.
الفرق أن هذا “الكيان المحتل” يمتلك مفاتيح القوى العالمية (الشركات عابرة القوميات والمال والإعلام)، فيصوغ رسالته كيف يشاء، ويميل الكفة الدولية على المديين القصير والأقصر لصالحه، فيكتسب المعارك الواحدة تلو الأخرى؛ لأنه استطاع أن ينظف بحيرته ويرمي أوساخه في مياهنا التي لم نستطع حتى أن ننظر إليها وهي تتسخ.
الفرق أننا منذ 1948 شهدنا عدداً من الانقلابات في الوطن العربي، والعشرات الفاشلة منها، ومحاولات الاغتيالات، والاغتيالات الفعلية، والربيع العربي، ولكننا لم نر شيئاً من هذا داخل الكيان، ومن داخل الكيان، فلا الحاجة لكل هذه الدراماتيكية ما دامت كل رغبات التغيير تأتي تبادلية من الهرم الاجتماعي وتبيّن بصورة واضحة وجلية المراد تحقيقه.
ها قد عدنا من جديد للمقارنات والبكائيات والجلد وغيرها من أمور، ذلك لأن لا سبيل آخر للوصول لنقطة التوازن إلا بإزالة العفن والصدأ المتنامي على الواقع، وهذا يعني ربيعا آخر لا نزال نعيش أطرافاً منه، ويكفي إلى الآن أن ربيع 2011 الذي لم يحقق في الكثير من مفاصله إلى الآن، مستمر ويسيطر على الجميع.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية