العدد 2358
الإثنين 30 مارس 2015
banner
لا تتركنَّ مكانك... لا تحدثنَّ ثغرة غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 30 مارس 2015

عرفت كلمة “ثغر” على غير معناها (الفم)، في الثمانينات من القرن الماضي، وذلك عندما بدأت لغة جديدة تأخذ مكانها في الفضاء العام إثر الغزو السوفيتي لأفغانستان، وتنامي ما عرف بـ “الصحوة الإسلامية” التي أعادت فتح الكثير من الكتب القديمة مجدداً، وجعلت مفردات تلك الكتب القديمة، مستعملة في اللغة اليومية. فعرفت، وأنا صبيّ إذ ذاك أن “الثغر” تعني الموقع على حدود البلد، فكان يشار إلى “المجاهدين” في أفغانستان إلى أنهم على ثغر من ثغور المسلمين. وعند ابن منظور، الثغر موضع المَخافَة من فُروج البُلْدانِ. والثغر الموضع الذي يكون حدّاً فاصلاً بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أَطراف البلاد.
ولقد علمتنا التجارب الكثيرة التي مرّت على هذه الأمة كما لم تمرّ على سواها في العالم في التاريخ المعاصر، كما أدّعي، والخطوب التي مرّت على هذه المنطقة، وأعني الخليج العربي تحديداً، وهي خطوب ودواهٍ لم تمرّ هكذا مجتمعة متكاثفة ومتتالية على أي إقليم عربي من ذي قبل، أننا جميعاً في هذا الوطن العربي الكبير، على ثغور، كل بلادنا ثغور يُخشى علينا من أن نؤتى منها، وأن تكون هي الخاصرة الأضعف التي يتسلل منها إلينا العدو.
في الحقيقة، إننا نعيش في زمن غريب، لا يمكنك الحديث عن عدو صريح، أو صديق مريح، عليك ألا تثق – سياسياً – إلا بنفسك بعد أن تشكّ فيها ألف مرة قبل أن تمنحها الثقة المتقلقلة أيضاً، فلا تعلم من أين يمكن أن يتسلل إليك العدو الظاهر، أو الوسواس الخناس، وتصبح أنت الثغرة التي يؤتى منها الوطن الأكبر. فكما حدث في عالم السياسة أن تجسست الولايات المتحدة على مكالمات حلفائها، وهي ليست عدوّا لهم، ولكنها تريد معرفة المزيد، وتريد أن تستفيد من تحركاتهم، لتسبقها، أو تفسدها ربما، أو تتدخل فيها، أو تستثمرها، هكذا الأمور تجري على الكثير من الصُّعُد. فما ان غفل حُرّاس الاتصالات في البرازيل وألمانيا وغيرها من الدول، حتى تسلل المتصنت الأميركي ليصيخ السمع لعله يستمع إلى ما يفيد استخباراتياً... نعم، تلبدت الغيوم في سماوات العلاقات الأميركية بحلفائها بعض الشيء، ولكنها ما لبثت أن انقشعت، لماذا؟ لأن الحليف لابد أن يقوم بشيء مشابه لم يجر الكشف عنه إلى الآن، فالجميع يتبادل فتح الثغرات في الأجسام الأخرى، ويختبر الثغور والمرابطين فيها، يتلمس أية خلخلة لينفذ منها إلى جسد الوطن ويأخذ مكانه فيه.
إنها مسألة أقرب ما تكون إلى قوانين الفراغ، إذ لا يتوجد في السياسة ما يمكن أن يسمى فراغاً، فما ان يكون هناك فراغ، وما ان تسمح دولة بأن تخلي مكانها، فلا تتوقعنّ بأن يظل المكان خالياً حتى تفكر في ملئه من جديد، فإذا كان المكان الملآن يتعرض للضغط من أجل إعادة تشكيل الجهة الشاغلة له، فما بالنا بالأماكن الخالية أو شبه الخالية، فلاشك أن يتواجد من يضع قدمه فيها، إن لم يكن الآن، فإنه قد وضعها بالأمس، فلا مجال لترك أي ثغر من ثغور الدول هكذا ضبابياً لا قيادة له ولا سيطرة عليه.
وإيران واحدة من الدول التي استوعبت درس سدّ الفراغ بسرعة مذهلة، ليس على المجال الإقليمي وحسب، بل وتجاوزته إلى أطراف بعيدة، لماذا؟ حتى لا تكتفي بطبقة واحدة من الحماية والعزل، ولكن بطبقات متعددة تصبح فيها هي جوهر الأمة ومركزها التي تعمل الأطراف على حمايته والذود عنه. ولم تكتف باستيعاب الأمر، إنما قامت بتنفيذه، وهي مرشحة اليوم لتعطي دروساً فيه أيضاً، إذ إن عيونها منبثة في كل مكان، تبحث عن الثغرات والثغور، وفراغات من الممكن أن تحتلها وتكون محرِّكة للأحداث.
وعن مسألة “عاصفة الحزم”، يكننا القول إنه لولا الفراغات التي تُركت لما استطاعت إيران أن تصول وتجول لوحدها في الساحة الإقليمية، وبكل أريحية، حتى باتت مقولة إن طهران تسيطر على أربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء)، وهي المقولة التي يترنم بها كثيرٌ من مؤيدي إيران بكل فخر واعتزاز وانتشاء، من المقولات الحقيقية التي لا مراء ولا جدال فيها، لأنها آلت إلى السيطرة الإيرانية حقيقة، بسبب الفراغ الذي أنتجه ضعف البنى الداخلية للدول نفسها، وعدم إعراب أية قوى إقليمية أخرى عن نفسها للقيام بسد هذا الفراغ، أو العمل على سدّه فعلياً، فهل تلام أية قوة أخرى إن عسكرت في هذا الفراغ المتروك؟!
لقد حان الوقت أن تتعلم الدول العربية هذا الدرس الأهم في تاريخها المعاصر، فهي لا تحارب إيران، بل عليها أن تحارب الفراغ، الثغرات والثغور التي تتركها هذه الدول سواء في داخلها (فلننظر إلى الصومال كيف أصبحت، والسودان كيف آل)، أو على أطرافها من دون خلق توازن مصالح بينها وبين جيرانها، فليس كافياً أن تسعى الدول، من أجل الوصول إلى وضعية الرفاه لوحدها مع وجود سلسلة من الجيران الذين يعانون ويعتصرهم الجوع والفقر والجريمة والتفسخ الاجتماعي، لأنهم سيلجأون لتهديد الدول الأكثر ثراء على الطرف الآخر من الحدود.
لقد تركت الدول العربية بعضها بعضاً طائعة مختارة، لكي تعاني الفقر والجوع والحاجة والفاقة والحروب الداخلية، وصمتت طويلاً إزاء التقارير التي تحذر من تدهور الأوضاع في أكثر من بلد، بل وصل الحال ببعض الدول العربية أن يموت الناس فيها من المجاعة بينما ترمي المئات من أطنان الطعام الذي لم يُمسّ في القمامة يومياً في دول أخرى.
إن كل مساعدة لها ثمن، ومن يدفع ويزرع يتطلع لأن يحصد، وعلى الدول العربية أن تختار إما أن تزرع هي، أو تدع غيرها يفعل ذلك.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .