العدد 2333
الخميس 05 مارس 2015
banner
أنموت ونحن أحياء؟! غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 05 مارس 2015

ككاتب صحافي، يهمني أن أتابع الكثير مما يجري في الساحة المحلية حتى يمكنني تلمّس ما يهجس به الناس، وما يدور في خلدهم، وكيف يفكرون في القضايا المختلفة، المحلية منها بالدرجة الأولى، والخارجية. وعلى الرغم من كثير من النزق والتزيّد، وأطنان صور التصبيحات، والأمنيات الطيبة، والحكم التي ربما لا يقرأها مرسلها وإنما يقوم بمجرد تمريرها تحت متطلبات نفسية واجتماعية لربما درسها المختصون؛ إلا أن من بين كل هذا “الركام” والزحام الإلكتروني، تتبدى الكثير من الصور التي يحاول البعض أن يطمسها بطبقات متتالية من الأصباغ والألوان وموانع الصدأ ومضادات تسرب المياه، إلا أن الواقع وما يجيش في الصدور بإمكانه أن يزيل كل هذه التحصينات الاجتماعية ليبدو الإنسان على حقيقته، وطبيعته، ويمكننا القول – ويا للأسف -  على وحشيته أيضاً.
في السنوات القليلة الماضية، راجت مجموعات التراسل الفوري (واتس آب) بشكل فجّ أحياناً، فصار لأصدقاء العمل مجموعة، وأصدقاء الصبا مجموعة، ولهواة أمر ما مجموعة، وللمهتمين بشأن ما مجموعة، وللأسرة الصغيرة مجموعة، وللعائلة الأكبر مجموعة، ويحدث أن تكون هناك أكثر من مجموعة داخل المجموعة بحسب التقارب الفكري والمزاجي، ومن هنا لا يكاد المرء في هذه الأيام يرفع رأسه من هاتفه الذكي لتلاحق الرسائل المختلفة المصادر، المختلفة المحتويات، والمختلفة الأغراض. وفي هذا الصدد يهمني متابعة بعض المجموعات التي تتناقش أكثر من مجرد تتبادل الرسائل المتبادلة، وذلك لأنها تكشف – بشكل وبآخر في الوقت نفسه – عن مزاج عام بصفة هذه المجموعات عينات عشوائية من المجتمع، وتكون أكثر تمثيلاً للمجتمع إن تنوّعت مشاربها، وتعددت مناطقها، وتقاطعت اهتماماتها، واختلفت انتماءاتها، حينها يمكن للمتابع أن يعرف بشكل أقرب ما يكون للواقع إلى أين يتجه المجتمع في تفكيره، خصوصاً أن أكثرنا – في الغالب – ينقل ويتناقل ما يدور في محيطه، وما يتبناه من آراء ومواقف.
ومع ذلك، ومع كل هذا الإغراء في الحصول على معرفة جيدة من خلال المراقبة والمشاركة في النقاشات التي تدور، إلا أنني اضطررت، وخلال شهر واحد أو يزيد للخروج من ثلاث مجموعات “واتس آبّية”: الأولى مجموعة سنية خالصة، لم يتحرك الزمن عندها شعرة واحدة منذ 2011، ولا تزال تتحدث بالتعبيرات نفسها التي ظهرت وراجت في تلك الفترة المقيتة من عمر البحرين، ورمي المعارضة بـ “الخيانة”، والكثير من التعبيرات الأخرى التي بعضها لا يزال طازجاً في ألمه لم يمح بعد. وعلى الرغم مما مرّ من أوقات، وعلى الرغم من تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق (لجنة بسيوني)، وعلى الرغم من الكثير مما تغير؛ لا تزال تلك المجموعة على مواقفها المزايدة على مواقف الحكم والحكومة من الجمعيات المعارضة.
والمجموعة الثانية، يفترض أنها لمجموعة من العلمانيين والليبراليين، إلا أن الشيعة فيهم لا يرون الحق إلا في ما تفعله إيران، وأن “حزب الله” منزّه عن الخطأ، وأن تناقضات حسن نصر الله في موقفه من أحداث سوريا وأحداث البحرين له ما يبرره، وأن بشار الأسد على الحق ولو كره الكارهون، وأن العراق هو عراق المالكي وتوابعه، في الوقت الذي التزم السنة في المجموعة الصمت؛ لأن أي نقاش أو تفنيد لهذا الرأي سيوصم صاحبه بالطائفية، والوقوف مع “داعش” ونصرة الظلمة، ويجد المجادل نفسه قد ألقيت عليه من التهم والتشبيهات ما يجعله خازناً احتياطياً لجهنم.
أما المجموعة الثالثة التي انسحبت منها (للمرة الثانية) قبل أيام قلائل، هي تجمع الخليط البحريني من كل الأطياف والأطراف، وبعد هنيهة من التعارف والتلاطف والتظارف، بدأت النقاشات تسخن، وتخلى الأكثر عن شراكتهم في الوطن، والتجأوا إلى طوائفهم، وصاروا يطلقون نيران الأوصاف والأحكام وهم يلبسون أقنعة جماعاتهم، لا يهم الوطن، ولا يهم مستقبله، ولا يهم الرضوخ للحق على ما فيه من ألم أحياناً، ولا يهم التجرد، بل الأهم مؤازرة كلٍّ لطائفته حتى لا تخرج من النقاش خجلة مهزومة، يجللها العار.
لو اتّبعنا سبل المنطق، لقلنا إن هذه المجموعات الثلاث – وبطبيعة الحال فهناك العشرات بل وربما المئات غيرها مما لا أعرفها ولا تعرفني -  تعدّ من المصادر المهمة، بل ربما تغدو – هي وغيرها – من الكنوز التي ينهل منها الدارسون عناوين لموضوعاتهم، وأفكاراً لبحوث الحالة البحرينية عموما، ويمكن للمتتبع أن يكتفي بالمراقبة، ويدوّن الملاحظات في الكيفية التي يتناقش بها البحرينيون إن أرادوا حلاً لقضية، أو إقناع الآخرين بوجهات نظرهم.
ولكن، والحقَّ أقول: لقد غادرتها مذعوراً، فارًّا منها فرار الخائف الوجل من أن أصاب بهذه اللوثة التي تجعل العقل، الذي كرّم الله سبحانه وتعالى به ابن آدم، يغدو كتلة شحمية ليس أكثر، حتى يستخسر الواحد منا عظم الجمجمة الذي يحميه، فهو لم يعد، بهذه الطريقة من التفكير، ثميناً ويُخشى عليه التلف أو العطب، فلقد بات عاطباً، عاطلاً عن العمل، جهاز ميت في جسد حيّ... هل من اللائق ضرب المثل عمّا يمكن أن يفرّق بين إنسان لا يُعمل عقله في التفكير، وبهيمة لم يهبها الله عقلاً لتفكر به، بل غرائز للتكاثر والنجاة والحفاظ على جنسها؟! كيف يمكن لنا – كبحرينيين – أن نخرج بعد كل هذه التجربة الطويلة من التعليم، والعمل الوطني، والتجارب التي نراها شاهرة ظاهرة أمامنا، بمحصلة متهاوية الحجج، تقودها أوهام النصر تارة، وارتعادات الهلع تارة، والكثير من الهواجس التي أخذت بلبّ قطاعات واسعة من الناس هنا؟!
إذا كانت اللائمة تتجه – تقليدياً – للقوى الدينية على اعتبار الانقسام البحريني اليوم انقساما طائفيا بامتياز؛ فما الذي يمكن قوله عن القوى الليبرالية التي تشظّت بدورها، وتمارس أطراف مهمة منها اليوم الطأفنة بلا مواربة ولا مداراة، ولكن تحت يافطات تحاول عبثاً تسويق هذا على ذاك، وربط المسارات مع بعضها حتى يطيب لها النوم باطمئنان لتلازم قناعتها العلمانية بجذورها الدينية؟!
إذا بقيت في الوطن بقية من عقلانية، فليس أهم من معالجات الوضع اليوم، وإلا انجرفنا جميعاً بين الانتماءات القصيّة والإقصائية، وبين الاكتئاب العميق الذي لا رجعة فيه.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية