العدد 2326
الخميس 26 فبراير 2015
banner
“فليستهبل” من أراد... لا رادَّ للنور غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 26 فبراير 2015

في مثل هذه الأيام من كل عام، تنطلق في الأجواء أنباء نتائج الشركات المساهمة العامة، لتملأ الصحف أخباراً، وصوراً... وإعلانات، تنعش بعضاً من الصحف التي تنتظر هذه الفترة من العام تحديداً حينما تنشر إعلانات التباهي بالأرباح للعام السابق والمتجاوزة (في الغالب) أرباح ما قبلها من سنوات، بينما بعض الشركات تدّعي أنها حققت “أرباحاً قياسية”، في الوقت الذي تكتفي بعض الشركات بذكر أرباح العام الفائت من دون اللجوء إلى المقارنات التي يمكن أن تكشف ما لا تود الشركة البوح به، إما بانخفاض في الأرباح أو بأرباح أعلى بقليل عن سابقتها، بما لا يدع مجالاً للكثير من التفاخر.
وإن كان هذا هو محور الحديث (أقصد ما تفعله الشركات التي تريد أن تواري حقيقة نتائجها المالية)، إلا أنها فرصة للخروج السريع عن الطريق للوقوف في استراحة بسيطة بمناسبة الأرباح “الله يزيدها” التي من المهم أن تكون للمخصص منها لدعم الأنشطة الرياضية أو الاجتماعية أو الصحية... الخ، سياسة توجيه واضحة، لا تذهب في “البهارج والطنطنة”، بل فيما يبقى وينفع البلاد والعباد. لا أذكر من ذا الذي اقترح ذات سنة إنشاء صندوق لهذه الفوائض المراد التبرع بها للصالح العام، من أجل أن تؤدي هذه التبرعات الهدف منها إن كانت على مستوى من الضخامة؛ إلا أنني أذكر أن الفكرة رفضت لأن كل شركة تريد أن يظهر رئيسها 100 مرة في العام الواحد أمام الكاميرا وهو يهب شيكات التبرعات للصناديق والفعاليات، بينما في المشاريع الضخمة سوف لن يكون له كل هذا الظهور، وسيضيع بين بقية الوجوه.
غير أن مسألة التعتيم والتكتيم هي المسألة الأهم في هذا السياق، حيث إن هناك من بيننا من لا يظنون أن العالم يتغير ويتقدم، بل بعضهم لا يصدقون، أو لا يريدون أن يصدّقوا، فهم لا يزالون على طرائقهم القديمة البالية في التعامل مع المعلومات، ولا يزالون يعتقدون أن عدم نشر المعلومة يعني عدم وصولها.
قبل أقل من عشر سنوات، كنت في حديث صحافي مع وزير، فقرر أن يمرر عن طريقي خبراً مهماً لقطاع من الناس، فقلت في حينه: “سأضع هذه المعلومة في مقدمة الخبر”، فغمز لي وعض على شفته السفلى قائلاً: “لا لا.. وسط الكلام... ادفنه”، بهذا التعبير، فقد كان يريد للخبر أن يظهر ولا يظهر، يُقرأ ولا يُقرأ، يُرى ولا يُرى... توقفت عن الكتابة برهة، وعيناي مسمّرتان على الورق والواضح أن ملامحي قالت إنني مستغرب من هذا التصرف، ففهم هو وقال: “لا عليك.. سيفهم من يفهم... ولن يقرأ الخبر من لا يتعب نفسه”!
هذا المسؤول يقوم بالشيء الذي تقوم به الشركات ذات الأداء المتعثر، فلو كان عمله مبهراً، وأداؤه ناصعاً خالياً مما يسيء، وقراراته سليمة لا شِية فيها، لما اضطر أن “يدفن” هذه المعلومات وسط الكلام. ومع ذلك، فإن ما لا يعرفه، وربما ما لا يريد أن يصدقه، هو أن المعلومة، أيّاً كان عمق “دفنها”، وما يمكن أن تطمر به من أسطر وكلمات، وأوراق وملفات، والكثير الكثير من أدوات الطمر والدفن والردم، فإنها إن ظهرت اليوم على العلن، فلا سبيل لإيقافها أو الحد من انتشارها أو كبح سياحتها في الفضاء الإلكتروني اليوم بين العشرات من الطرق السيّارة التي تنقل المعلومات في غمضة عين، ويعود الناس لإرسالها مراراً، وتعود نفسك (وربما تكون أنت من أطلق المعلومة في البداية) لتستقبلها مرات ومرات، وبحسب حجم المعلومة، وأهميتها في هذا المجتمع أو ذاك، ومدى إثارتها، يمكن أن تعلَق في الفضاء الإلكتروني لمدة من الزمن قبل أن تطويها قضايا أخرى، وقصص مختلفة، ومعلومات ربما أراد صاحبها أن يسترها، فأطلّت برأسها من دون استئذان.
فلقد كانت السلطات، وحتى الليبرالية منها، في الكثير من الدول ولفترات متطاولة من الزمن، تعتبر نفسها صاحبة الحق في إعلام الناس ما يجب عليهم تلقيه وما لا يجب، وأن المعلومات التي لا تعجب السلطة هي بالتأكيد لا تعجب الناس، وكيف يتفقون مع أفكار لا تتفق مع سلطتهم؟ فتمنع هذه الدول بعض المواد، سواء كانت كتباً أم أفلاماً أم غيرها مما لا يتناسب مع نظامها أو معتقداتها، وكانت تعتقد أنها بذلك تحمي المجتمع من الأفكار الهدّامة (في الحقيقة هي لا تحمي إلا نفسها)، وعلى الرغم من كل ذلك، انهار جدار برلين، وتغيرت أنظمة، ورحل من رحل من الآباء الدكتاتوريين، فلم تنفع استراتيجيات المنع والحظر، ولم تفلح جيوش الموظفين والمراقبين الذين كانوا “يفلّون” الكتب كما يفلّى الرأس من القمل، ويقرأون الكتب كلمة كلمة، لعل هناك كلمة لا تروق للرقيب الذي يحمي نفسه بإنزال سقف المسموح مرات ومرات عن السقف الذي وضعه له مسؤوله الذي قام بدوره بخفض السقف الذي أخبره به مسبقاً كبير المسؤولين الذي استشف ما يعكر صفو مولاه فوضع مسافة بين ما يمكن أن يغضب ربّ المال، وبين بقائه هو في منصبه حارساً أميناً على راحة سيده... ومع كل ذلك لم تنفع تدابير منع الفكرة/النور، وإن كانت “ظلامية” في بعض المقاييس، إلا أنه يكفي أنها تستطيع أن تقدح آليات التفكير والتحليل والتخييل في ذهن متلقيها.
قبل أقل من عشرة أيام، كنت أريد استكمال بحث، فدخلت جملة من المواقع البحثية، ومنها مكتبة تابعة لجامعة في جمهورية مصر العربية، وإذا بالموقع محظور، التفت مستغرباً إلى شاب يصغرني بعقدين، فتحركت أصابعه على لوح المفاتيح بسرعة وخفة حتى أنني شككت أنه “يخربط”، وإذا به يكسر الحظر ويوصلني بالسلامة إلى ما أريد، فلم يُجدِ نفعاً دفن المكتبة بالمنع، ولا خبر الوزير بالدفن، ولا الكتب والمصنفات الإعلامية بالمصادرة والإتلاف... ومع ذلك فالجميع مستمر في القيام بواجبه!.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .