العدد 2302
الإثنين 02 فبراير 2015
banner
قناص القيم الأميركي غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 02 فبراير 2015

قبل أيام قرأنا خبراً يشير إلى منع الصين جامعاتها من أن تتداول الكتب التي تروّج للقيم الغربية، ولأننا مجرد متلقين للأخبار ولسنا ناقلين لها إلا كمستهلكين؛ فإن الخبر الذي أوردته وكالة أنباء غربية عالمية أشارت إلى أن الأمر الصيني يقول إنه بدلاً من ترويج القيم الغربية المنتقدة للصين، فإنها تحث على استبدال هذا النقد بالترويج لرئيسها الحالي شي جين بينج، في المواد الدراسية وقاعات الدراسة وفي عقولنا من أجل المساعدة في خلق قوة عمل سليمة من الناحية الآيديولوجية، كما جاء في الخبر نفسه.
وإن كان الشك يساور من يقرأ هذا الخبر الذي تنتمي صياغته إلى أيام الحرب الباردة في ستينات وسبعينات القرن الماضي؛ فإنه حتى وإن صحّ ما نقلته الوكالة الغربية، فإنه لا غرابة في ذلك.
لقد ربطت هذا الخبر بفيلم رأيته في صالة السينما لدينا هنا في البحرين بعنوان “القناص الأميركي” American Sniper حيث يتم من خلاله ترويج لقيم الحرب الأميركية، وتبرير القتل الذي جرى للعرب والمسلمين في أفغانستان والعراق، وتصوير البطل الأميركي بالشكل التقليدي، الذي لا يخاف ولا يُهزم، بينما أعداؤه (نحن) جوقة من المنافقين والدمويين والجبناء والهمجيين، وتقود أحداث الفيلم وإيقاعه إلى خلق تعاطف مع الممثل الرئيس فيه، وترتفع دقات القلوب عندما يحاصره “السفلة” من العرب، ويتمنى المشاهد أن يقتلهم جميعاً لأنهم يريدون قتل “البطل” المنقذ والمخلّص، ويتنفس الصعداء لأن إرادة الخير الأميركية تنتصر في نهاية المعركة التي لا يصحُّ فيها إلا الصحيح، لقد تذكرت – وأنا أشاهد الفيلم – واحدة من ألعاب الفيديو التي كانت موجودة في مجمع تجاري، يضع فيها أطفالنا نقوداً ليقوموا بدور القوات الأميركية التي تنزل في قرية عربية، وننتصر كلما قتلنا عدداً أكبر من العرب ذوي السحنات القبيحة، وجعلنا الدماء تفور من أفواههم! هكذا بأيدينا نشتري البلادة القومية لأبنائنا من أجل أن يهللوا بانتصارهم في لعبة على أنفسهم.
هذا الفيلم الحديث التاريخ، ليس بِدعاً من فيض لا حدّ له من الآلة الإعلامية البالغة الضخامة، والبالغة القوة والقسوة في محو جميع الثقافات العالمية، وإحلال الثقافة الأميركية محلها، بما فيها الثقافة الغربية الأوروبية، إذ إن دولة المركز (الولايات المتحدة) لا تريد أن تبقى وحيدة محاصرة في ثقافتها وتعاطيها مع ما تؤمن به، ولا تريد أن تستمر في عضّ أصابع الندم والحسرة لأنها ابنة أربعمئة سنة، بينما دول العالم القديم تفاخر بحضارات تمتد أقصرها عمراً إلى أربعة آلاف سنة ما بين قبل الميلاد وبعده، فهذه واحدة من العقد التي تجعل شركاتها لا تعير التفاتاً، ولا تقيم وزناً للقيم والأعراف والثوابت الوطنية، بل تبالغ في تحطيم وتهشيم كل ما يربط المجتمعات بجذورها، وكل ما يمكن أن يشكل قيمة بعيدة عن قيم السوق بجشع السوق ووحشيته وصرامته وقسوته، وطرد من لا يربح فيه بجلد أبرد من سبيكة حديد في ليل ثلجي الهواء، إنها الدولة الأقوى التي تبحث لمنتجاتها عن أسواق تتجدد وتتوسع، ولا يهمها في سبيل هذا التوسع ما الذي يمكنها أن تسطّحه لتمهّد الطرقات من أجل أن تشق القيم الأميركية طريقها إلى قلوب الناس في كل مكان، ومن ثم عقولهم، والعمل على تمييع أية روح وطنية في أية دولة أو منطقة، مع احتقار لكل ما هو محلي من أخلاق أو قيم أو معتقدات أو فنون أو طرائق عيش، لأن المكون الأميركي في كل هذا بات هو القياس: فإما التأمرك أو يكسوك غبار التخلف والتقهقر والتدحرج إلى القعر!
أعود لا لألوم الولايات المتحدة بشركاتها الكبرى الضخمة ذات المداخيل المليارية التي تفوق دخول عدد من دولنا، فلا أحد في اللعبة الدولية ينظر بعين الإنسانية والشفقة للآخرين إلا عندما يكون على مسافة أكثر من مريحة بينه وبينهم، ويضمن ألا أمل للآخرين للحاق به حتى ولو توقف عن التفوق لبضع عقود من الزمان؛ فهذا دأب المنتصر الذي يريد أن يرى مجتمعه ينهض، وثقافته تسود، ولغته ينطق بها من يريد أن يجاريه، وطريقته في العيش والتصرف هي التي تحرّك مصانعه، وقِيَمه التي لابد أن تتلاقى مع الكثير من القيم العالمية، ولكنها لا تنطبق معها أيضاً بشكل تام؛ هي التي يتغنى بها أبناء العالم في أيٍّ من القارات، ما من أمة غالبة، أو تسعى للغلبة والفوز على منافسيها إلا وودت أن ترى العالم بأسره خاضعا لها، يدين لها بالولاء، ويعمل على سمع ما يصدر منها ويطيع، بل إن أي تصرف غير هذا سيكون خرقاً للناموس.
ولكن اللوم يقع علينا، وعلى الآخرين الذين رفعوا أيديهم مبكراً إزاء الفيضان الإعلامي الأميركي تحديداً المنهمر علينا من كل الأقطار، من دون أن نستطيع أن ندير أي فعل للمقاومة الإعلامية، ولا بذلنا المال عالمياً لإنتاج أفلام تحسّن من صورنا المشوّهة بفعل التسميم الغربي لأبنائه، وانتقال هذه المياه الإعلامية لتسممنا أيضاً وتشككنا في أنفسنا، وتجعل الكثير منا يتبرأ منا لسوء ما نقوم به من أعمال، تدفع بعضنا إلى اليأس واللا جدوى فيرتكب الحماقات والقتل والتخريب فتلتصق به التهمة دون فكاك، ولأننا أعجز من أن ندافع عن ثوابتنا وقيمنا تربوياً أو إعلامياً أو مجتمعياً أو بأي شكل من الأشكال، فقد تمكّن منا الخَوَر حتى بلغ شرايين العضلات، فنرى بأم أعيننا الانتهاكات تتوالى فلا نحرك حتى أذرعنا فنرفعها لنقول فقط: كفى... حتى هذا عاجزون عنه، فكيف يمكن أن يجري تحصين الأجيال القادمة من الاجتياح التام، ورؤية جميع ما صمد أمامه الآباء يتهاوى من دون أن يشكل لهم ذلك أي حرج ماداموا قد أصبحوا مواطنين عالميين.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية