العدد 2298
الخميس 29 يناير 2015
banner
الحياة بعيداً عن “القزران” غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 29 يناير 2015

تتنافس الكثير من الدول منذ أكثر من عقدين على صنفرة ملفاتها المتعلقة بمواطنيها، بدءاً من الاهتمام بصحة الحوامل، مروراً بانخفاض نسبة الوفيات عند الولادة، والوفيات المبكرة لما دون سن (كذا)، وكذلك الرعاية الصحية والمدرسية، والعمر المتوقع للإنسان في بلد ما، ومتوسط الأعمار فيها يدل دلالة حسابية على ما يتمتع به أهل البلاد من رعاية صحية، في مؤشرات عالمية، فمرّة يقال إنها مؤشرات بشرية، ومرة يشار إلى أنها إنسانية، مرة توضع للمنطقة العربية، ومرّة لغرب آسيا، وهكذا تتعدد المقاييس في محاولة لمعرفة ما الذي يجعلنا نقول إن دولاً أفضل من دول، وما هو مقياس، أو مقاييس الأفضلية.
إن هذا التنافس بين الدول أمرٌ حسن، بل ومطلوب، وأكثر من ذلك فهو واجب على الحكومات وليس منّة على شعوبها، وهو إن أتى تحت مسوّغات مختلفة، إلا أن الحق في الحياة ليس مجرد الأنفاس الصاعدة والنازلة، وليست هي المظاهر الأساسية للعيش والتي يمكن أن ترى بالعين، ولكنها أمور أكثر غوراً في النفس البشرية هي التي تجعل الجميع يعيش في المستوى الجسدي، مع شيء من التقارب، ولكن الفروقات تظل واسعة وكبيرة بين عيش وعيش.
ففي الواقع نجد أن كثيراً من الناس من الذين هم أشد حرصاً على “حياة”، أيّاً كانت هذه الحياة، فغير المعرّف في اللغة يفتح التأويل على عدم التحديد وانتقاء نوعية الحياة التي هي مصدر الحرص الشديد من قبل الناس، فهذا الحرص على غير المعرّف يعني أن كثيراً منا لا يهمهم أن يعيشوا من أجل شيء، من أجل مبدأ أو فكرة، إنما يعيشون كيفما اتفق، وحسبما تأتي به الريح من أعراض، وبالتالي، فإن مجالات اهتماماتهم بمستقبلهم تصبح محدودة لضبابية الهدف، وعدم الاكتراث بالخيارات التي يمكن أن يفتح عليها هذا المستقبل، فهذه طائفة من الناس لا يهمها أن تضع سيناريوهات مختلفة لحياتها كما كان يفعل الأقدمون عندما يحيكون السيناريوهات بشكل مبسط على هيئة “احتمالات” تبدأ من افتراض يقول “هَبْ أنّ...”، ووراء هذا الافتراض تأتي الكثير من الخيالات الواسعة التي قد تحدث ولو باحتمال ضئيل، ولكنها – في المحصلة – تحاول أن لا تدع للصدفة محلا، فالتفكير في المستقبل بشكل فردي أو جماعي (على هيئة خطط استراتيجية) يعني الرغبة في رؤية أنفسنا في حال أفضل مما نحن عليه اليوم، وهذا تفكير إيجابي تقوده الرغبة الحقيقية في “الحياة”، وليست أية “حياة”، مهما كان مستواها وجودتها ونوعيتها.
إن التفكير اليائس الذي نراه يستشري حولنا يردد عبارات تقال بنبرة متهالكة، مفادها أن هذه الحياة ما هي إلا “تقزار”، أو “قزران”، وأنها “تقزر”، والكلمة بكل تلاوينها وتصاريفها تعني أنها مجرد تمضية وقت.. أي نوع من الوقت، وبأي شكل كان، وفي الغالب تجري تمضية هذا الوقت - العمر -  السنوات - العقود، كيفما اتفق، دون أدنى حرص على أن يمر هذا الوقت بشيء من المتعة في قضائه، ولا الاستفادة من مروره، والحرص على استثمار ساعاته وثوانيه، فإن أتى بفائدة فأهلاً به، وإن مرّ بليداً بطيئاً متثاقلاً من دون أن يخلف فينا شيئاً، ومن دون أن يؤثر أو يتأثر، فنسير معه ونسايره حتى يمر لنستقبل غيره من الأزمان من دون التخطيط لما نحن فاعلون فيه.
هذا التفكير اليائس الذي يريد أن يدحرج الأيام وكأنه يستعجلها لكي تصل إلى مداها فتنتهي معها الحياة، نابع من انعدام حيلة الفرد في تشكيل الجزء الأهم من حياته، أو التحكم في المفاصل الأهم من مستقبله، إما لانسداد الأفق الاقتصادي، فلا عمل، أو لا عمل مغرٍ طموح، أو لوجود عوائق تحدّ من الانطلاق والابتكار، وثقافة تشجع على طرد المبدعين والمفكرين، أو لعدم محاسبة المسؤولين، أو لعدم وجود سائلين عما يحدث، أو لخلل في تطبيق أنظمة المحاسبة والمراقبة والمكافأة، أو لوجود خلل في أنظمة الترقيات بحيث تجري ترقية الجميع فيتساوى العامل مع الخامل، أو عدم ترقية الجميع فيتساوى الطرفان أيضاً، والأسوأ أن تجري عمليات الترقية بمقاييس أبعد ما تكون عن العدالة، فتتخلق روح اليأس واللامبالاة لثلث وقت الإنسان في الفترة المنتجة من حياته.
وعلى المستوى الاجتماعي ربما لا يجد البيئة التي يمكن أن يتفاعل معها، بيئة لا تلبي متطلباته، ربما تكون خاملة في حين انه عالي النشاط، أو غير محفزة لخموله، بيئة تتصيد النابهين والمبدعين لتقتل فيهم هذا الجانب، ومجتمع لا يحتضن أبناءه، بل منقسم على نفسه في أشكال تتصاغر من الاحتضانات بينما لا حضن واسع يجمع الجميع إليه ويوفر لهم الحماية والمنعة ليثبتوا من خلاله ذواتهم، ويجدوا التقدير لما يفعلون، وينزع عنهم صفة “الكود” الخالي من الإنسانية، حتى لا يتحول الفرد إلى رقم بطاقة ذكية.
وعلى المستوى الأسري إن كان حضوره كغيابه، ووجوده كعدمه، وصوته كصمته، بل إن كان مطلوبا غيابه وعدمه وصمته، ولا تفاعل بينه وبين محيطه الأسري، ولا تلاحم بينهما، ولا دفء أو مودة. فيخرج إلى الحياة فيجدها قاتمة معتمة، يريد المشاركة فلا يستطيع، يريد أن يقول رأياً فلا يجد الكفاية من المساحة ليقول، يريد أن يختار من يمثله فيجد من يقول له: لا تتعب نفسك، فنحن نفهم ما لا تفهم، واخترنا لك الأصلح، وكان قد خرج (رجلاً كان أم امرأة) من بيت اختار له الآخرون الشريك “الأصلح” من دون إرادته.
إنها عوامل مختلفة تجعل الحياة أفضل، أو من الأفضل أن نعيشها بهذه الشروط أو لا نعيشها إلا كهياكل لحمية من دون أرواح خفيفة تشع بالسعادة والتطلع والتحفز، إنها حقوق ثابتة للإنسان في عدالة تعم الأرجاء، وحرية في الخيارات، ومساحات فسيحة للإبداع، حتى لا تغدو الحياة مجرد “قزران”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية